ARTICLE AD BOX
سعت عدة دول، منذ بداية العام الجاري (2025)، إلى تعميق علاقاتها مع المكوّنات العسكرية الليبية، عبر زيارات ذات طابع عسكري، جرت فيها مناقشة الشؤون الدفاعية مع جانبي الحُكم في ليبيا، وتوسّعت اللقاءات، لتشمل المجالات الاقتصادية. وبينما شكّل تعثّر بناء الجيش سببا لانتشار المجموعات المسلّحة، يشكّل اندلاع المعارك في طرابلس تحدّياً إضافياً على جانبي؛ الجدوى من وجود النفوذ العسكري واستجابة الليبيين للالتزامات تجاه الحكومات الأخرى. وهنا، تبدو أهمية مناقشة تأثير التطوّرات التي استجدّت أخيراً للعلاقات العسكرية الخارجية على تركيبة القوات الليبية، على ضوء التغيّرات والعمليات الهيكلية لدى "القيادة العامة" في شرق ليبيا، وهيئة الأركان التابعة لحكومة الوحدة الوطنية.
على مدى المراحل الانتقالية، ظلّت العوامل الداخلية كابحاً لتكوين الجيش الوطني ودمج المسلحين، ويثير تنامي التواصل الدولي مع قيادات عسكرية ليبية النقاش بشأن اتجاهات تأثير التواصل على ترتيب الشؤون العسكرية في ليبيا. وناقش مقال سابق للكاتب في "العربي الجديد" بعنوان "العسكرية الليبية" مساهمة العوامل السياسية والمجتمعية في تعطيل بناء الجيش الوطني ووحدته. وخلص إلى أنّ انتشار الروابط العائلية واستمرار انهيار الإدارة المدنية شكّلا حزمة كوابح، سَهّلت تقسيم الجيش وانتشار الجماعات المسلحة من خلفيات عقيدية مختلفة عطلت التكامل الوطني.
الاتصال الدولي والعسكرية الليبية
أثارت التحرّكات العسكرية بشأن ليبيا، في الشهر الماضية، الانتباه لاتجاهات التأثير المُحتملة على مكوّنات الجيش الليبي على جانبي البلاد. في هذه الفترة، استقبلت مصر قائد القيادة العامة، خليفة حفتر، في 19 يناير/ كانون الأوّل الماضي، في سياق الترتيبات المستمرّة بشأن دعم السياسات العامة والدفاع على مستوى البلاد، ورعاية المحادثات اللجنة العسكرية، واستضافة اجتماعات مشتركة لمجلسي النواب والدولة. وبشكل عام، تعمل السياسة المصرية على بناء الجيش الليبي وفق أنماط تدريب متماثلة مع تلك المُعتمدة في المؤسسة العسكرية.
ومن جهة تركيا، جاءت زيارة قائد القوات البرّية صدّام حفتر في إبريل/ نيسان الماضي ضمن الانفتاح على مكوّنات المجتمع الليبي وتوطيد العلاقة مع حكومة الشرق، بحيث لا تكون على حساب المصالح مع حكومة طرابلس، وقد استقبلته تركيا بمراسم دولة، نتج منها عقد اتفاقيات تعاون عسكري والشراكة الأمنية، وهي تمثّل امتداداً لاتصالاتٍ أخرى، بدأت في معرض "ساها إكسبو 2024" الدولي للدفاع والفضاء في إسطنبول، في أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، لتعكس أرضية مستقرّة للعلاقة مع شرق ليبيا، حيث جاءت في سياق تلاقي عاملين؛ تطلّع فريق "القيادة العامة" لتمثيل الجيش، وانفتاح تركيا على كلّ المكوّنات الليبية.
على مستوى السياسة الأميركية، لم يضف وصول الرئيس دونالد ترامب تغيّراً، فقد مدّد حالة الطوارئ في السياسة الخارجية لزيادة الرقابة العسكرية وتكثيف الاتصال مع كلّ الأطراف المعنية بالوضع الليبي. وبجانب هبوط طائرات شبحية في المطارات الليبية، تعكس زيارة القطعة البحرية USS Mount Whitne، التابعة للمنطقة المركزية، ميناءي طرابلس وبنغازي، إبريل/ نيسان 2025، سهولة وصول الولايات المتحدة إلى النخبة السياسية، فكانت اللقاءات على ظهرها أقرب إلى مؤتمر بين طاقم البحرية والمسؤولين الليبيين، شمل كلاً من طاقم الأمور الفنية، المبعوث الخاص للرئيس ترامب ومستشاره السياسي ووفدي حكومة طرابلس وبنغازي؛ يتنافس فيه طرفا رجل الأعمال المستشار السياسي لرئيس حكومة الوفاق، إبراهيم الدبيبة وصدّام حفتر، للتشاور على برنامج التعاون العسكري والاقتصادي مع الحكومة الأميركية.
تعمل السياسة المصرية على بناء الجيش الليبي وفق أنماط تدريب متماثلة مع المعتمدة في المؤسسة العسكرية
وفي السياق، حافظت روسيا على الاتصال السياسي مع وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، وتطوير علاقاتها العسكرية مع شرق ليبيا. وفي زيارته طرابلس، 9 إبريل/ نيسان 2025، اهتم الوفد الروسي بالتنسيق مع المجلس الرئاسي، ودعم الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا، في نطاق التدريب العسكري، ومكافحة الإرهاب، وتأمين الحدود، إضافة إلى التعاون الاقتصادي والاستثماري في القطاعات الحيوية.
وعلى الجانب الآخر، بدأت مسيرة روسيا بالتضامن مع مشروع خليفة حفتر لتكوين الجيش، وزاد دورها مع الهجوم على طرابلس في إبريل/ نيسان 2019، لتؤسّس المرحلة اللاحقة على أن تكون ليبيا محور سياستها الأفريقية. وفي الزيارات أخيراً إلى مينسك (بيلاروسيا) في 19 فبراير/ شباط 2025، تركّز اهتمام الوفد الليبي على تقديم ملامح مؤسسة عسكرية، وبغضّ النظر عن وضوح الطابع العائلي فيها، فإنها تبدو صيغة مناسبة لتحويل شرق ليبيا منطقة ارتكاز للتحرّك في إقليم الساحل.
بشكل عام، تكشف هذه التحرّكات عن خريطة من المصالح غير المترابطة في الأمن والدفاع، بحيث تُراكم بيئة تنافسية وصراعية في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، تعكس الزيارات الانشغال بترقّب صعود النخبة الجديدة والتقارب مع دوائر السلطة المُحتملة، غير أنها تواجه صعوباتٍ، لا تقتصر على الهشاشة الهيكلية، وإنما ترجع إلى الطابع البراغماتي للفاعلين في السياسة الليبية وصعود الطابع العائلي، ما يشكّل تحدّياً للالتزام بالتفاهمات، وخصوصاً مع حاجة الحكومتين للاعتراف الخارجي والدعم العسكري. وقد انعكس هذا القلق في احتفاظ الدول بعلاقاتٍ مع كلّ الأطراف الليبية، لكي يكون رهانها مفتوحاً على كلّ الاحتمالات.
التنافس الدولي واختلاف المؤسّسية الليبية
يجري التواصل الدولي مع العسكريين الليبيين على أرضية الواقعية السياسية لا المشروعية. خلال سنوات ما بعد سيطرة قوات حفتر على بنغازي، جرت عملية تكوين الجيش الوطني (القوات المسلحة العربية الليبية)، تبعتها سياسة بناء الإدارة المدنية، لتكون "القيادة العامة" الأكثر حضوراً وتمثيلاً للدفاع الليبي في المؤتمرات الدولية، وقد زادت هذه السمة بعد استقرار سيطرة خليفة حفتر وعائلته على مساحاتٍ كبيرة من البلاد، من الشرق إلى الجنوب والوسط، صاروا أكثر جاذبيةً للتفاوض السياسي مع أطرافٍ دولية عديدة.
وعلى خلاف ذلك، تعاني هيئة الأركان العامة في حكومة الوحدة الوطنية من انفلات بعض المكوّنات العسكرية، واستمرار الصراع المرير على النفوذ، وصلت، حالياً، إلى تصاعد الصراع على النفوذ داخل العاصمة والسعي إلى الاستيلاء على مزيد من الموارد، لتكون نتيجته قتل رئيس جهاز دعم الاستقرار، عبد الغني الككلي، ليتم بعده سيطرة قوات وزارة الدفاع (اللواءين 444 و 111، الإضافة إلى القوات المشتركة في مصراتة) على مقرّاته في وسط العاصمة.
مع إزاحة "جهاز دعم الاستقرار"، شنّت الحكومة عملية أمنية لتصفية "قوات الردع الخاصة"، 14 مايو/ أيار الجاري، لتفتح معارك واسعة داخل العاصمة، بهدف استكمال السيطرة. وبغضّ النظر عن غموض اتجاهات الصراع، سوف تحتاج البنية العسكرية وقتاً طويلاً حتى تتعافى من آثار المعارك، خصوصاً مع تزايد احتمال انتشارها إلى مناطق أخرى.
لم تتمكّن الجماعات المُسلحة من بناء الثقة مع المكوّنات المجتمعية أو المجتمع المدني
ورغم عيوب الطابع العائلي وعدم الاعتراف الدولي بحكومة أسامة حماد (في شرق ليبيا)، وفّرت هذه البيئة إسناداً لتحرّكات صدّام حفتر، من وجهة تفاوت سياسات البناء لدى كلّ الأطراف، وبينما تشهد إدارات السلطة في الشرق تطوّراً مركزياً، فإنّها في غرب ليبيا محاولاتٌ للتعايش مع السلاح والفوضى، بحيث يتشكّل واقعٌ يعوق الحكومة عن القيام بوظائفها.
في ظلّ مخاطر ضعف المؤسسية، بدت الأبعاد السياسية واضحةً في احتفاظ الدول بالقدر المناسب من الدور العسكري والنشاط الاقتصادي اللازم للتأثير في السياسة الليبية. وهنا، يمكن تفسير القبول بحالة الأمر الواقع بالرغبة في صياغة ملامح انتقال/ وراثة السلطة، على حساب معالجة الانقسام السياسي. تبدو هذه التصرّفات واضحةً في الاتصالات مع عائلة خليفة حفتر والاعتراف بتفويض أولاده بتمثيل القائد العام في زياراتٍ تكتسب الطابع السياسي، شملت مصر وروسيا وتركيا والولايات المتحدة، وينطبق الأمر نفسه، جزئياً، على حكومة الغرب الليبي، حيث تتداخل علاقات القرابة والتمثيل السياسي في اللقاءات الرسمية، وخصوصاً مع روسيا وقادة البحرية الأميركية.
ومع شدّة الميول الواقعية، لا توفّر محصلة التطلّعات الدولية فرصة جادّة لطرح الانتخابات حلّاً لأزمة السلطة، فعلى الرغم من كلام دولٍ كثيرة عن الانتخابات، لم تظهر مواقف داعمة للعملية الانتخابية، فيما كان الانشغال بتوطيد علاقاتها مع دوائر النفوذ المحلية في مجالات الاقتصاد والأمن، ذلك بالاستفادة من صراع المكوّنات العسكرية وحاجة الحكومات لتثبيت الاعتراف بها.
السباق على التبعية
على مدى مرحلة ما بعد سقوط معمّر القذافي، لم تتمكّن الكيانات العسكرية/ الجماعات المُسلحة من بناء الثقة مع المكوّنات المجتمعية أو المجتمع المدني، ليقع تعريف نشاطها في نطاق استعادة السلطوية العائلية أو نهب ثروات الدولة. وبجانب التقاسم الفعلي لموارد الدولة وجغرافيتها، أرست هذه الأوضاع عُزلة ما بين مصلحة الشعب وتطلّعات الجهات الرسمية، ليترسّخ الطابع المحلي لنشاط ودور الجهات العسكرية. لا تبدو هذه الحالة بعيدة عن السياق السياسي، حيث تشير ممارسات الأحزاب، حديثة النشأة، لوجود مشكلات هيكلية وانخفاض الاستجابة للأزمات، يمكن تفسيرها في تنافر كلٍّ من الأحزاب، القبلية وهشاشة المؤسسات.
يجري التواصل الدولي مع العسكريين الليبيين على أرضية الواقعية السياسية لا المشروعية
وفي هذا النطاق، لا تقدّم الشبكات الحزبية بديلاً مناسباً؛ فعلى مدى ما يقرب من 13 عاماً، لم يستقر تحالف حزبي، وظلّت تعمل موسمياً. وبداية من تحالف القوى الوطنية وانتهاءً بشبكة الأحزاب، أُنشئت الروابط لأهداف قصيرة المدى، كان معظمها التحضير لخريطة طريق أو مراجعة قانون الانتخابات. كانت شبكة "صناع السلام"، يونيو/ حزيران 2023، ضمن المحاولات محدودة التأثير في الوضع السياسي، رغم تفكيرها بطرح حِزمة شاملة للحلّ السياسي. وقد ظهر انخفاض تأثير الأحزاب، المحاولة الجنينية لسدّ الفراغ عبر تداعي سياسيين ومثقفين لترتيب هيئة سياسية جديدة، تحت مسمّى بيان النخب السياسية في 20 إبريل/ نيسان 2025 (للرد على مقترح البعثة الدولية)، هي في حقيقتها عريضة مطالب بعقد الانتخابات وتشكيل حكومة موحّدة، وليست مشروعاً سياسياً لإنقاذ البلاد.
لطالما كان لغياب حكومة مركزية تأثير مزدوج، فمن ناحية، ساهم التغلغل الأجنبي في دعم بقاء الوضع الراهن والرضا بتنامي نفوذ الجماعات المُسلحة، ومن ناحية أخرى، حال دون الوصول إلى موقف إقليمي، بسبب إغراء ممثلي حكومتي الغرب والشرق للدول في الموارد الليبية. أدّت هذه الوضعية إلى أن يكون موضوع الانتخابات مسألة مساومات فيما بين أطرافٍ خارجية عديدة.
ومع التطورات الجارية، تحمل البيئة الداخلية سمات ضعف الالتزام السياسي تجاه الدول، بسبب تشتّت قوّة الجهات الليبية، لتدخل البلاد في مرحلة أخرى من ترتيب دوائر النفوذ، فمن جانبٍ، لا يلقى مشروع خليفة حفتر عن دور الجيش في بناء الدولة توافقاً داخلياً، كما لا تكفي قدرته للسيطرة على البلاد. ومن جانب آخر، لا تعالج أحداث طرابلس الجارية أصول مشكلة الجيش والسلطة، بقدر ما تثير الانقسام حول مستقبل السلطة والحُكم. وكما ترسّخ هذه الوضعية قابلية البنى المحلية لتزايد النفوذ الخارجي، فإنها تجعلها أكثر تردّداً في الانحياز الكامل لجهة أو اقتراح صيغة عسكرية لقيادة الانتقال السياسي.
