ARTICLE AD BOX
77 عاماً، والنكبة الفلسطينية مستمرّة. أشكالها متنوّعة، لكنّ المشترك في تلك الأشكال، كامنٌ في إبادة إسرائيلية تتفنّن في ابتكار أساليب جديدة للقتل والتدمير، في كلّ مرة. رغم هذا، لا تزال السينما، الفلسطينية أولاً، والعربية والأجنبية ثانياً، غير متمكّنةٍ من إيفاء المسار التراجيدي للإنسان الفلسطيني في سيرته تلك. لحظات لاحقة تُكمِل تلك النكبة، والسينما تجهد في استيعاب الحاصل، والجرائم ضد الفلسطينيين، في البلاد المحتلة وخارجها، تحديداً في لبنان، باقيةٌ في ذاكرة، فردية وجماعية، واشتغالات توثيقية وتحليلية وتفكيكية تقول شيئاً من أحوالها وتفاصيلها.
غالب الظنّ أنّ اختيار أفلام تعاين النكبة واللاحق عليها في 77 عاماً، غير صعبٍ. فالأفلام قليلة، قياساً إلى حجم الخراب الموثّق رسمياً في 15 مايو/أيار 1948، من دون تناسي السابق على هذا التاريخ، والحاصل بعده. ولعلّ "فرحة" (2021)، للمخرجة الأردنية دارين ج. سلام، يبقى آخر تجربة سينمائية تستعيد تلك اللحظة، عبر عينيّ مراهقةٍ (كرم طاهر)، تحدّق في أهوال الخارج، هي المختبئة في قبو، بانتظار عودة والدها (أشرف برهوم) إلى المنزل. النكبة، في الفيلم، مروية بسلاسة وهدوء، وثقبٌ أو أكثر في القبو يمنح المتابع/المتابعة شعوراً بأنّ قتلاً يجري في الخارج، والأصوات تؤكّد هذا، والكاميرا (راشيل عون) تتحوّل إلى عينيّ فرحة، القابعة في ظلامٍ يُعينها على اكتشاف الجريمة، ليس كجريمة مباشرة فقط، بل كفعلٍ متكامل تصنعه سلام في متخيّل ينبثق من واقع الحكاية ومأساة ناسها.
فـ"فرحة" غير معنيّ بتصوير النكبة وتفاصيلها الواضحة، لالتزامه البصري مشاعر فردية في مواجهة تلك اللحظات القاهِرة. والنهاية مُعلّقة، فلا الأب عائدٌ، ولا مسار المراهقة معروف، ولا البلدة الصغيرة واضحة ملامحها، ولا البلد ظاهر. المعلّق في نهاية "فرحة" كافٍ ليقول أكثر من المرويّ، مع أهمية المرويّ في 94 دقيقة. وإذْ يجهد الفيلم، سينمائياً، في سرد واقعٍ، يبقى أداء كرم طاهر تحديداً أصدق تمثيلٍ لهذا الواقع، ولمعنى مواجهة مراهقة خراباً غير موصوف، لشدّة عنفه. فالسرد ـ المختَزَل بحكاية ابنة تعيش مع والدها، والعمّ (علي سليمان) الذي يحاول إقناع شقيقه بضرورة تسهيل أمور الصبيّة الراغبة في العلم والمعرفة خارج تلك البلدة ـ يكشف عيشاً عادياً في بلدة عادية، قبل التحوّل الخطر، الذي سيكون نكبةً، لها عناوين عنفية ودموية لاحقة.
العنوان الآخر، الذي يحضر في مناسبة كهذه، يتمثّل بـ"باب الشمس" (2004) للمخرج مصري يُسري نصر الله، المقتبس من رواية بالعنوان نفسه (1998) للّبناني إلياس خوري، المشارك في كتابة السيناريو مع نصرالله واللبناني محمد سويد. رواية توثّق، أدبياً، سردية فلسطينية غير مكتفية بالنكبة وما قبلها وما بعدها، لتمكّنها من تعرية أفرادٍ في مشاعر وعلاقات وأحلام وخيبات، ينقلها نصرالله إلى فيلمٍ (بجزأين) يحوّل الكلمات إلى صُور، ويمنح القارئ مساحة أوسع لمزيد من تخيّل وقائع وتفاصيل.
فالرواية، بتوغّلها في ذوات وأرواح أثناء سردها الحكاية الفلسطينية، تجد في الفيلم امتداداً لنصّها الأدبي، المتحرّر من سطوة المفردات، لأنّ قوة الصورة تكشف تاريخاً، بل تُعيد سرد تاريخٍ بلغة فلسطينية صافية وصادقة. الاشتغال السينمائي في "باب الشمس" يُعيد التقاط وقائع النكبة، عبر قصة حبّ، وسيرة هجرة، ورغبات أفراد، وخيبات أناسٍ يحاولون إيجاد منفذٍ لراحة مرجوّة، من دون أنْ يتخلّوا عن أمل عودة مرغوب فيها. الجهد المبذول في تحويل الرواية إلى فيلمٍ، وهذا غير سهلٍ لأنّ الرواية مليئة بتفاصيل ومسارات، يبلغ (الجهد) مرتبة رائعة في إعادة تصوير لحظة النكبة (وما بعدها وما قبلها)، عبر المرويّ والمتخيّل معاً. فالمرويّ، تاريخياً أو كحكايات فردية، يُمكِّن المتخيّل من جعل النص المكتوب صُوراً متتالية، تعكس ما يصبو إليه الياس خوري في كتابته، وما يريده يسري نصرالله في ابتكاره تلك الصُور السينمائية.
فيلمٌ ثالث يُستعاد في الذكرى الـ77 لنكبة فلسطين: "طنطورة" (2022)، للإسرائيلي آلون شفارتس. وثائقيّ يستند إلى بحثٍ أكاديمي لتيودور "تيدي" كاتس، المختصّ بـ"رحيل/هجرة جماعية للعرب من قرى السفح الجنوبيّ لجبل الكرمل" (قسم "تاريخ الشرق الأوسط" بجامعة حيفا). فالمجزرة، الحاصلة في تلك البلدة الفلسطينية ليل 22 ـ 23 مايو/أيار 1948، تُشكِّل فقرة أساسية في سلسلة المجازر الإسرائيلية المنبثقة من نبكة فلسطين مباشرةً. والبحث الأكاديمي أطروحة جامعية تُناقَش أواخر 1999، بعد نحو 18 شهراً على تسجيلها. البحث نفسه يستند إلى خلاصة لقاءات كاتس مع نحو 200 جندي في لواء ألكسندروني: بعضهم يرتكب المجرزة، وآخرون يُشاركون فيها أو يشهدون وقائعها.
الوثائقي يستعيد البحث/الأطروحة، ويلتقي كاتبها، ويحصل منه على أشرطة الكاسيت، المُسجَّلة قبل 20 عاماً على بدء تحقيق الفيلم، والمشاركون في تلك اللقاءات ينتمون إلى جيل واحد، فهم في السبعينيات من أعمارهم عند التسجيل، في منتصف تسعينيات القرن الـ20: "يُمكنك أنْ تأخذ الأشرطة وتستمع إليها. لكنْ، إذا كنتَ تريد أنْ تصنع منها فيلماً، فانتبه، لأنهم سيُلاحقونك كما لاحقوني"، يقول تيدي لشفارتس (العربي الجديد، 5 أغسطس/آب 2022). وهؤلاء، إذْ يروون أفعالاً لهم ومشاهدات، يُقرّون، ضمناً ومباشرة، بجُرمٍ، يحاولون "تجميله" و"تجميل" أسبابه. ورواياتهم تبدو، أمام الكاميرا، كأنّ الجُرم حاصلٌ الآن، فلا ندم ولا تراجع، بل محاولات طفيفة لتبريرٍِ وتفسير.
لكنّ تذكّر النكبة، سينمائياً، غير مكتمل من دون "الزمن الباقي" (2009)، للفلسطيني إيليا سليمان. فرغم استناده إلى سيرته وحكاياته الشخصية في صُنع أفلامه، يلتقط سليمان لحظة النكبة في "الزمن الباقي" بسينمائيّةٍ مذهلةٍ في تمكّنها البصري من مزج وقائع خرابٍ وجمال صورة. فالأهمّ، في سينما سليمان، كامنٌ في أولوية الصورة والواقع، المتحوّلين معه إلى متتاليات تقول شيئاً من أهوالٍ، بلغة مُحبّبة وكاشفة وصادقة بالتزامها السينما أولاً.
الاكتفاء بالأفلام السابقة لا يلغي أفلاماً أخرى، تستمد من لحظة النكبة مادة سينمائية، روائية ووثائقية، أو تستعيد جرائم إسرائيلية مرتكبة بعد النكبة، ومنها "كفرقاسم" (1974)، للّبناني برهان علوية: مجزرة يرتكبها جنود إسرائيليون، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956، بحقّ 49 مدنياً فلسطينياً من أبناء قرية كفرقاسم (18 كلم شرق مدينة يافا)، بينهم 23 طفلاً ومراهقاً دون الـ18 سنة. وهذه نكبةٌ أيضاً.
