ARTICLE AD BOX

<p>رسم متخيل لياقوت الحموي (وسائل التواصل)</p>
"أما بعد، فهذا كتاب (...) لم أقصد بتأليفه، وأصمد نفسي لتصنيفه، لهواً ولا لعباً، ولا رغبة حثَّني إليها ولا رهباً، ولا حنيناً استفزني إلى وطن، ولا طرباً حفزني إلى ذي ود وسكن. ولكن رأيت التصدي له واجباً، والانتداب له مع القدرة عليه فرضاً لازباً، وفقني عليه الكتاب العزيز الكريم، وهداني إليه النبأ العظيم، وهو قوله عز وجل، حين أراد أن يعرف عباده آياته ومثلاته، ويقيم الحجة عليهم في إنزاله بهم أليم نقماته: "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". فهذا تقريع لمن سار في بلاده ولم يعتبر، ونظر إلى القرون الخالية فلم ينزجر، وقال وهو أصدق القائلين: "قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين"، أي انظروا إلى ديارهم كيف درست، وإلى آثارهم وأنوارهم كيف انطمست، عقوبة لهم على أطراح أوامره، وارتكاب زواجره، إلى غير ذلك من الآيات المحكمة، والأوامر والزواجر المبرمة".
في دائرة الأيديولوجيا
واضح من هذه الفقرة المنتزعة من تقديم ياقوت الحموي لكتابه الضخم "معجم البلدان" أن هذا الباحث إنما يضع سفره هذا تحت دائرة "الأيديولوجيا" - في معناها الذي كان سائداً في ذلك الحين، أي بدايات القرن الهجري السابع (الـ13 الميلادي)، بمعنى أنه يكرس هذا المعجم الذي كان الأول من نوعه ومن أهميته في اللغة العربية، ليجعل منه في نهاية الأمر أشبه بموعظة أخلاقية، ولكن من الواضح أيضاً أن هذه المصادرة على عمل موسوعي ضخم، شمل بمعارفه ومعلوماته الرقعة المعروفة من الأرض في ذلك الحين، كانت مجرد ديباجة ولعبة فصاحة، لأن الكتاب، إذ أتى في صفحاته الكثيرة مرآة لما كانت عليه أحوال العالم في ذلك الحين، منظورا إليه من وجهة نظر "مركزية الأرض" التي كانت منطقة المشرق العربي، فإنه أتى ليقول ما هو محلي وقريب بالمقارنة مع ما هو بعيد. إنه نوع من ذلك العمل الموسوعي الذي يسعى إلى تملك العالم نظرياً، ولا سيما في زمن كان من الصعب فيه تصور مواصلة تملكه عملياً. إنها السلطة الفكرية، سلطة المعرفة، إذ تحل محل السلطة العملية.
عقد الأمة المنفرط
والحال أن وضع عالم الإسلام في زمن تأليف الكتاب يحيلنا إلى هذا الواقع. فالأمة كان عقدها قد بدأ بالانفراط، وصارت الخلافة خلافات. وفي ذلك السياق، حدث وبصورة تلقائية أن بدأ الفكر يحل محل السيف في ممارسة "السلطة". أفلا يقال عادة إن الأمم تؤرخ لنفسها، موسوعياً على وجه الخصوص، حين تشعر بالوهن؟ ولكأن التأريخ هنا نوع من إحالة الأمة إلى المتحف.
من هنا، لئن كان "معجم البلدان" لياقوت الحموي، في الأساس، موسوعة جغرافية - تاريخية أولى من نوعها وفريدة في عالمها في ذلك الحين، فإن المعرفة التي امتلأت بها صفحات "المعجم" لم يكن الهدف منها نشر المعرفة فحسب، بل التذكير والمقارنة. لأن المؤلف، وفي كل مادة من مواد كتابه، لا يتردد من دون ذكر أفضال الإسلام على الديار، والوحشية التي كانت قبل وصوله، والازدهار الذي نتج من ذلك الوصول. وهنا بالتحديد ينتقل الكتاب من مضمار العلم إلى مضمار الأيديولوجيا. ولا يخفف من حدة ذلك ما يذكره المؤلف في مقدمته من أن الباعث على تأليف الكتاب، نقاش دار بينه وبين آخرين حول اسم "حباشة"، وهو اسم موضوع "جاء في الحديث النبوي، وهو سوق من أسواق العرب في الجاهلية". وأراد لاحقاً أن يتيقن من حجته فبحث في المكتبات حتى عجز أو كاد عن الحصول على معلومة مفيدة، فأدرك الحاجة إلى وضع ذلك المعجم.
نظرات على هنات السابقين
مهما يكن من أمر فإن ياقوت لا ينكر أنه كان ثمة من سبقه ووضع كتباً في أسماء الأماكن، لكنه إذ يؤكد هذا، يورد نواقص تلك الكتب، قبل أن يتحدث عن كتابه فيقول: "وعلى ذلك فإنني أقول ولا أحتشم وأدعو إلى النزال كل علم في العلم ولا أنهزم. إن كتابي هذا أوحد في بابه، مؤمر على أضرابه ولا يقوم بإبراز مثله إلا من أيد بالتوفيق، وركب في طلب فوائده كل طريق". وبعد أن يحدد هذا يتابع ياقوت فيذكر لنا أنه قدم "أمام الغرض من هذا الكتاب، خمسة أبواب: الباب الأول في ذكر صورة الأرض وحكاية ما قاله المتقدمون في هيئتها، و"روينا عن المتأخرين في صورتها"، الباب الثاني: في وصف اختلافهم في الاصطلاح على معنى الإقليم وكيفيته واشتقاقه ودلائل القبلة من كل ناحية، والثالث في ذكر ألفاظ يكثر تكرار ذكرها فيه يحتاج إلى معرفتها كالبريد والفرسخ والميل والكورة، وغير ذلك، والرابع في بيان حكم الأرضين والبلاد المفتتحة في الإسلام وحكم قسمة الفيء والخراج فيما فتح صلحاً أو عُنوة، أما الباب الخامس والأهم فهو في "جل أخبار البلدان التي لا يختص ذكرها بموضع دون موضع، لتكمل فوائد هذا الكتاب، ويستغنى به عن غيره في هذا الباب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مكان للبيوغرافيا أيضاً...
ومن نافل القول أن نذكر هنا أن "معجم البلدان" جاء، تحت يراع ياقوت في نهاية الأمر، ليس موسوعة جغرافية وحسب، بل كذلك موسوعة تاريخية وأدبية وإلى حد ما "بيوغرافية"، ما دام الفوارق بين هذه الأنواع لم تكن اتضحت بعد في ذلك الزمن. من هنا حين يذكر ياقوت موضعاً، يعود إلى تاريخه (وهو غالباً تاريخ فتح المسلمين له، وفي هذا دلالته بالطبع)، ويذكر ما قيل فيه من شعر وأبرز أعلامه، وما إلى ذلك. ناهيك بتركيزه - ولا سيما حين يذكر الديار التي دخلها الإسلام، لكنه لم يدع أهلها إلى تغيير دينهم - على مجموعة الأحكام الفقهية. ومهما يكن من أمر، تقول الكتب الموسوعية العربية عادة، إنها لا تعرف كثيراً عن سيرة ياقوت الحموي، على رغم أن الرجل وضع موسوعة "معجم البلدان"، فإنه وضع كذلك موسوعته الأخرى التي لا تقل عنها أهمية وهي موسوعة "معجم الأدباء"، وهو يسير فيها من ناحية التأريخ البيوغرافي للعدد الأكبر من المؤلفين في شؤون الأدب والفكر على نفس ما سار عليه في موسوعة البلدان إلى درجة أن المتابعين غالباً ما يأتون على ذكر الموسوعتين معاً في سياق واحد. وجل ما يذكر عن ياقوت إذا هو أنه "الشيخ الإمام شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي البغدادي" الذي "لا يُعلم شيء عن تاريخ مولده"، كما تشير خصوصاً طبعة "دار صادر" اللبنانية المأخوذة عن "نسخة ليبزيك التي نشرها المستشرق الألماني وستنفيلد". وتضيف هذه الطبعة أن كل ما يعرف عن ياقوت "أنه أُخذ، وهو حدث، أسيراً من بلاد الروم وحُمل إلى بغداد مع غيره من الأسرى فبيع فيها، فاشتراه تاجر اسمه عسكر الحموي فنسب إليه وقيل له ياقوت الحموي". وكان الذي اشتراه يعرف منذ البداية أنه "جاهل بالخط" فوضعه في الكتاب ليتعلم (...) فقرأ ياقوت شيئاً في النحو واللغة، ثم احتاج إليه مولاه، فأخذ يشغله بالأسفار في متاجره. ولم يمضِ زمن حتى أعتقه فطفق ياقوت بكسب رزقه بنسخ الكتب. وتقول حكاية ياقوت على أية حال إنه بعد فترة من الزمن وإذ تقدم به العمر، عاد إلى مولاه وإلى تجارته ثم سافر إلى حلب حتى استقر في خوارزم. وحين أغار عليها جنكيزخان سنة 616هـ (1219 م) توجه ياقوت إلى الموصل ومنها إلى حلب التي قضى فيها في عام 1228. وهو خلال تنقلاته وضع كتبه ومصنفاته وأبرزها "معجم البلدان" و"معجم الأدباء"، كما أشرنا.