ARTICLE AD BOX
من ذلك الذي استطاع أن يمسك هذه السعادة ويحكي معها وتحكي معه ويعرف أسرارها وحقيقتها، وهل هي أثيرية أم شعورية أو إشارات وذبذبات، أم هي بهجات بأشياء ممسوكة كالنجاح أو الحبّ أو اللذائذ الأخرى، التي يجري وراءها العالَم، ومن خلالها تتزيّن الأفراح والموالد والأعراس والهوادج والملاعب وأعياد الميلاد، وبقية طقوس الأفراح الشائعة في البلدان والقرى والمدن كافّة.
سعادة بعد مشاهدة فيلم جميل، وكأنه قال لك بهدوء حظّك، أو فيه من روائح عثراتك. سعادة المرور "بكرنفال" فيه من الألوان والحيل كلّها، وسعادة قراءة كتاب جميل، أو لقاء مع صديق قديم استطاع أن ينطق لك بتلك اللحظات التي كانت داخلك وظننت أنها منسيّةً، وسعادة المرور بمكان كان في يوم من الأيام جنينة عنب واسعة محاطة بالورود التي تطلّ من خلف السور الطيني، أو سعادة أن تصبح ذاكرتك البصرية لا تعينك على معرفة شخص جلس فجأة بجوارك على مقعد رخامي طويل في مدينة روي بعُمان، والتفتَ التفاتتَين بربع عينه من تحت النظّارة، وهمهم همهمتَين، ثمّ أشعل سيجارة، ثمّ ابتسم ابتسامةً خفيفةً، وقال لك حزيناً: "أنت مش عارفني؟"، فأوقعك في حَرَج طويل، حتى قال لك: "أنا عبد المنعم يا حكيم كنا مع بعض في مدرسة داقوف الإعدادية مش اسطال يا عمّ"، ثمّ ابتسم ابتسامةً خفيفةً فيها ذلك العتاب الرقيق، والعشم، وطابت الجلسة على المقعد الرخامي ورقص الكلام وتزيّن بالحكايات، كان اللقاء وكأنّك مسكت ذكرى السعادة من قرونها ورقصت، وكانت الكلمات تخرج سعيدة وخفيفة من موقفٍ إلى موقفٍ ومن صديقٍ إلى صديقٍ غاب أو توفاه الله أو غرق وهو يصيد السمك، والغريب أن عبد المنعم نفسه الذي كان يخاف على ابنه الشابّ من الغرق في البحر في عُمان، غرق أيضاً في البحر اليوسفي بعد سنوات من عودته من عُمان. عرفت ذلك مصادفة.
سعادة أن ترى وردةً حمراء تنبت فجأةً فوق شجرة ورد فوق سطحك، والوردة نفسها تميل بدلال بجوار فرخ حمام أبيض في قفص جريد، والفرخ ظهرت ريشاته وبدت الحيرة في عينيه، وأنت تشمّ هواءً لطيفاً ساقته صدف الرياح من بعيد قبل المغارب، والحمام الغريب هناك في أسراب يحلّق فوق المحاصيل والغيطان بعدما اصفرّت سنابل القمح ومالت من ثقلها. سعادة التئام جرح في يدك، وكنت تظنّ أن صحّتكَ بعد ما كبرتَ قد وهنت وسوف يغلبك الجرح.
كيف يمسك فرخ الحمام السعادة وهو يهتز بعدما يصير شبعاناً، ثمّ ينطّ هنا وهناك بعدما أخذ نصيبه من الطعام. سعادة الفلاح وهو يطرف بعينيه في حقله وتنطّ الهداهد فوق مياه الريّ بجوار قدمه المبلّلة، فما بالك بساعة الحصاد أو شرب الشاي في الجرن بعد ربط الزكائب؛ سعادة الصدفة حينما تأتيك على جناح حبّات عرقك، سعادة أن تعرف وتقرأ وتقوم صباحاً إلى عملك بفرح، فتحسّ أنك لست ثقيلاً أو زائداً على الكون.
سعادة أن تشبع خرافُك، وهي تميل إلى الظلّ في ليونة وأدب، بعد عراك الطعام والشراب. سعادة أن ترى عصفورَين يدخلان إلى رخام المقهى صباحاً في خفّة وتوجّس بحثاً عن بقايا الفتات، وعلى أتم استعداد للهرب أيضاً. سعادة التاجر حينما يحسب المكاسب في السوق وتحت إبطه سخلَين صغيرَين والمحفظة في جيب الصديري قد حافظت على مقامها في البيع والشراء والعودة سالماً.
سعادة صاحب صندوق الورنيش وهو يعود من المقهى بأربعة أزواج من الأحذية، ويشعل السيجارة التي كانت خلف أذنه شبه منسية. سعادة مجانين المقاهي وهم في حالة ابتسامة ما أمام محكمة الأحوال الشخصيّة بجوار عربة فول وطعميّة، وصاحب العربة يغازل الماشيات ويضحك صاحب صندوق الورنيش. سعادة قارئ النجوم حينما يصل بعلومه أسرار المجرّة، وفي ورقة يقيس حظّ نجمة عشقها أمير وخانته المحبّة مرّات ومرّات، سعادة الوتر ليلاً تحت أصابع صاحب العود العاشق، حينما يمسك الوتر بوجع القلب ويسوقه بليونة إلى حنجرة المغنّي العاشق، فيسيل النغم ليلاً تحت الجبل كالماء النادر.
