ARTICLE AD BOX
أحمد الناجي
بينما يقلبني الأمد الوجيز لهذه الشهادة يمنة ويسرة، حزمت أمري باتجاه تقديم انطباعات خاطفة عن بعض موفق محمد، عبر استذكار منعطفات متمايزة من تجربته الشعرية التي انطلقت منتصف عقد الستينيات، بادئاً اشتغالاته باللهجة المحكية، وباكورة قصائده نشرتها جريدة (كل شيء) الأسبوعية أواخر سنة 1964. ونشر أولى قصائده بالفصحى سنة 1968 في مجلة (الفنون المعاصرة) التي أصدرها الأديب والناقد مؤيد البصام مع الشاعر الراحل سركون بولص. ومرت الأيام الى أكثر من جديد في حياته بعدما خاض سنة 1969 غمار تجربة العمل الصحفي، إذ عمل في مجلة (صوت الطلبة)، ولكنها انتهت بعد فترة لم تبلغ السنتين، لما غادرنا الزمنُ الذي كان فيه الوطن يتسع للآخر المختلف. جاءت الانعطافة الحقيقية مرتسمة بخطوط عريضة، حينما قام الراحل حميد المطبعي سنة 1970، بنشر قصيدته المعنونة (الكوميديا العراقية) في (مجلة الكلمة) التي أصدرها في مدينة النجف، منبهاً بمانشيت على غلافها، يقول فيه: "موفق محمد شاعر يولد في الكوميديا العراقية"، وما زالت تلك القصيدة الى يومنا هذا تسترعي انتباهة النقاد. وبدا واضحاً أنه يحوز على حساسية مرهفة وعمق وجداني وعقل شكاك وروح مشاكسة، وأبرز ما يحسب له في ذلك النص إحساسه بالمأساة القادمة، واستشراف الزمن الغادر الذي جاء محملاً بالمرارات.
يتوكأ موفق تارة على الفصحى وتارة على اللهجة المحكية، وما بين جنون (العته) وموعظة الناسك، يختلط الهذيان بالحكمة، يعيش الانعتاق من سلطة الواقع حيث يرتقي جموح المخيلة الى فضاءات بلا حدود، وتسمو اللغة الجارحة، ويسير الضحك الى جنب البكاء سوية وفق إيقاعات منغمة، فتتناثر معاني الكلمات في نصوص ملونة بألوان وجوه الناس، تخرج عن المألوف وتتخطى التقليد، مثيرة للتساؤلات، تحث على التأمل، وتعبر عن انفعالات مثقلة بشحنات من الكوميديا السوداء التي يتزود بها الإنسان في غربته واغترابه.
تجربة شعرية تنادي بالحرية والعدالة وكرامة الإنسان، يتكثف فيها الوجع العراقي المعتق بالمرارة، تتفجر شعراً يشبه الجمر، مثلما تثير الاندهاش، ترتقي بالذائقة، ويسيح الجمال متعالياً من بين سطورها، وقد اكتملت نضجاً على مدى نصف قرن من السنوات، وباختصار أنها تجربة منحازة لليسار، وقد جعل من الشعر وسيلته لقول كل شيء، صاغ بالحروف والكلمات عدداً من القصائد الدافقة بمعاني الانتماء للوطن، غنى للمطرقة والمنجل، وشد من أزر نضالات شغيلة اليد والفكر، وتجلت جرأته وطبيعته الثائرة والمشاكسة في منجزه الذي لفت الأنظار، وأدعوكم هنا الى تأمل مطلع قصيدته المعنونة (حميد الصكر) التي قرأها منتصف السبعينيات في قاعة اتحاد الأدباء في بغداد، حينها تعالى صوت الشاعر وهو يعبر عن احتجاجه وما يعتمل في دواخله من مشاعر حول تصفية صديقه المعلم الشيوعي، قائلاً: "يمكن أن تحرق رأسَ شيوعيٍ بالنار، لكن لا يمكن أن تحرقَ في هذا الرأس الأفكار".
وبمرور الأيام، اتسعت مداركه وازدادت اشتغالاته، وتنوعت تجاريبه، وتكاد تكون قصيدة (الشلالات الضوئية) المنشورة منتصف السبعينيات متفردة غير مسبوقة، لكونها مغايرة للسائد والمألوف شكلاً ومضموناً، قدم فيها إضاءة لأحد خطابات الراحل عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، حيث تم تضمين مقتطفات منه في كل مقطع، بمعنى تشكيل متن متعلق بالشعر وهامش متعلق بالخطاب، ومما يلفت الأنظار في هذه التجربة انسياب النص بطراوة شعرية، واعياً بأدواته يقيم محاورة فكرية بين الذات والآخر، تحقق التواصل التفاعلي بين أخيلة الشاعر الإبداعية وبين أفكار السياسي بوصفها تأملاً عقلياً، والشيء الأكيد أن هذا الاشتباك الذي تمخض عن خطاب شعري إنما يرسي دعائم التكامل بين دور السياسي والمثقف، والقصيدة جديرة بالتأمل، بدأً من عتبة العنوان مروراً بالمتن وانتهاءاً بالهامش، يتبدى فيها انهمام الشاعر بالشأن الوطني وانحيازه الى ضمير الشعب، كما تعكس واقعية التجربة الإبداعية التي كانت تنبض وفق إيقاعات الزمن المفعم بحرارة الايديولوجيا.
حين اشتدت محنة الإنسان والوطن في الأيام الغابرة، وتفاقمت صنوف العذابات، رَضِيّ مدرس اللغة العربية أن يمتهن بيع الشاي، وقَبِلَ بكسرة خبز، وبقيت الهامة مرفوعة، ومع تراكم الخسارات، كان نصيب صاحبنا قاسياً، إذ طاله غدر الزمان بفقدان الابن الأكبر في المذابح الجماعية، وفي العادة حين تضيق الدروب على الشاعر، فليس في يده حيلة غير أن يؤوب الى الحروف والكلمات، وتبدأ احتدامات العقل بالمخيلة، وتنطلق الاختلاجات من وجدان يقظ، مقترنة برغبة على التمرد، ويركب مغامرة البوح، هكذا أراد ومضى.. وليكن الطوفان، ولا يبالي صاحبنا بما يعقب فحيح الأفاعي من سموم، ويصور محنة الإنسان العراقي بأجلى بيان زمن الحصار الجائر منتصف التسعينيات في قصيدته الصادمة (عبديئيل)، التي يقول فيها:
ماذا يصنع عبديئيل في راتبه اللايكفي يوماً
باع أثاث الدار.. كليته اليسرى.. باع الدار .. وَمدّد جثته في حاويةِ الازبال
وعشرة أطفال وامرأة لونها الجوع
ويحلم في قبر أوسعَ .. يحلم في قانون الدفن على البلديات
ويقرأ من على منصة مهرجان (المربد) سنة 1998 قصيدة (النهر والمقصلة)، وفيها يقيم مقاربة بين ظلامة الإمام الحسين (ع) ومكابدات العراقيين، ومن ثم يعود في مربد السنة التالية 1999، ليقرأ قصيدة (بالتربان ولا بالعربان)، متناولاً قضية ولده المغيب، حيث تتفجر انفعالاته بالكلمات الجارحة مدوية وسط القاعة.
حياً أراه كزهرةِ الرمان يقطفها المسدسُ بالرصاص.. ولا خلاص
إنَّ الحديثَ لذو شجون
قد قطعوا الأشجارَ عن عمدٍ.. وأشتدَ بالفأس الجنونُ
وظلَ يهذي في براعمها الطريةِ
ماذا تريدُ ومن تكون... ؟؟
إن العصافيرَ التي كانت هنا أعشاشها.. ماتتْ تـُزَقـْزقُ في السجون
ويمضي شاعرنا يوالي نصوصه، وهو يبعث فيها باقات من الاحتجاج، رافضاً كل الأنساق التي سلبت مظاهر الحياة، دون أن يغفل عن إمدادنا بشحنات من الأمل في رائعته (لا تيأَسَن يا حسن)، نص باللهجة المحكية يمازج بين الواقعي والفنتازي، تناول في هذا النص مآل الأحلام التي راودت صديقه حسن عمران مدرس اللغة الانكليزية المنكود الذي لم يعرف من لذائذ الدنيا غير طعم العرق المغشوش، وتخييلات هذا التوليف المبهر تنطوي على سخرية سوداوية مدافة بالألم الإنساني تتسرب الى الروح، وتهز الضمائر، يعزف بعناية على وتر تذكر نهاية الاستبداد، ذلك الحلم القار في نفوسنا والذي صار بعيد المنال، لكي لا نهمل الذاكرة، من حيث أن (كُل ماسَة واِلهَ مِسَنْ، لا تيأَسَن يا حسن).
والمفارقة المؤلمة أن حسن عمران غادرنا متعجلاً، ولم يشهد لحظة سقوط الصنم، وحين طال الغياب، يعيش شاعرنا محاصراً بقلق رحيل صديقه المقرب ، يغمره الحنين، فيحزم أمره يتسلل غفلة الى حيث يكون بين يدي الله ليواصل وإياه الدردشة حول أحوال البلد بعد التغيير وما حاق بالناس من أهوال، ويعود الينا بعد نص بعنوان (حسن في بلاد ما بين القتلين)، ويرتد صوت الشعر صادحاً:
لا فرق إذاً
كانَ حسنٌ قبراً فوقَ الأرض ينفخ ناياً وربابا
صار حسنُ قبراً تحتَ الأرض ويسري في القبور
يسألُ الأمواتَ عن نفخةِ صور.. فلقد هيأَ للربِ عتابا
وفي الزمن المضطرب، حين اختلط الحابل بالنابل في مفتتح عهد العراق الجديد، كان شاعرنا على تماس مع الواقع الانتكاسي الخانق، ينظر المشهد المضبب، يتأمل الخراب والدمار والكوارث، ويتفحص تفاصيل الموت المتناثر على الطرقات الذي يطال العراقيين، ويترصد سراق الأمل العراقي وما اكتنزوا من ثروات، يتحسس موطئ قدميه، يتلوى.. يتمزق.. يتشظى.. يذوب، ويتلمس أفكاره القريبة من هموم الناس البسطاء، يتوحد مع أنين المهمشين ومعاناتهم، يستحضر ما هو دفين في دواخله، يمتزج الخاص بالعام والذات بالموضوع، فيتصدى لدور المثقف مجاهراً، يحمل دماءه على كفيه، يلعن كل الفاسدين والمفسدين بالصوت والصورة دونما رجفة قلب، يخوض غمار الأدب بشجاعة وجرأة متناهية، وليأتِ القدر بما يريد ثمناً للموقف الوطني والإنساني النبيل، وشرع يكتب ويواصل نزف الشعر معفراً بتراب الوطن، يفيض بشجون الناس، يردد على مسامعهم معاني الانتماء لهذه الأرض الطيبة، كلمات تنتصر للحياة التي تنبعث من الموت وتعزز الأمل وتفيض بالجمال.
هكذا تعودنا أن نراه متألقاً، يكتب بالضوء أحاسيسه، تنبعث مضيئة متلألئة دافئة وسط عتمة هذا الزمن الموحش، وهو يهجس ترميم جراحاتنا بأطيب الكلمات، ينتفض دوماً على الرغم من كل الخيبات والانكسارات معلناً، أن لا خيار أمامنا نحن العراقيين غير التساكن والتعايش والمحبة، وصارخاً بكل أنفاسه: قل لها يا أمُ صبراً..
يا لها من لحظة قاسية، وداعاً موفق.. وصبراً جميلاً لكل محبيك.. وستبقى معنا وبيننا، تحيا فينا وسط القلوب لأكثر من سبب، ولا يمكن أن يجرفك تيار النسيان.
ولسان حالنا يردد ما فاضت به قريحة الجواهري الكبير من قول: أكبرت ُ يومكَ ان يكونَ رثاءَ، الخالدون عرفتهم احياءَ؟
The post وداعاً موفق.. وستبقى معنا وبيننا.. تحيا فينا، ولا يمكن أن يجرفك تيار النسيان appeared first on جريدة المدى.