وأخيراً صدرت هذه المذكّرات

1 week ago 3
ARTICLE AD BOX

لا تزال مرحلة الحماية في المغرب من التواريخ القريبة الملتبسة على المغاربة وغيرهم ممن يدرسون تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، لما شهدته من تقلبات سياسية وثقافية ودينية عديدة، وتنافساً كولونيالياً كبيراً، على الأخص بين فرنسا وإسبانيا، من دون نسيان ألمانيا وإنكلترا أيضاً. ومما جعل هذا التاريخ حسّاساً وشديد التعقيد ندرة المواد التي كتبت حوله، وندرة التوثيق الذي كتبه الذين عايشوا هذه اللحظة، سواء من السياسيين أو العلماء وشيوخ الزوايا والوطنيين والمقاومين وغيرهم، من دون أن نغفل حساسية تناول هذه المرحلة عند من توفرت لهم بعض الوثائق حولها، سواء من الأرشيف الفرنسي أو ما حازته الأسر السياسية الكبيرة في المغرب، خشية الدخول في صراع مع السلطة أو بعض الجهات التي تحسب عليها هذه الشخوص.

لهذا، يعد صدور المذكرات السياسية والعلمية، للشيخ الحافظ محمد عبد الحي الكتاني المتوفى سنة 1962، عن دار الإحياء (ط1، 2025)، حدثاً ثقافياً وسياسياً كبيراً، لما له من أهمية في الكشف عن المزيد من خبايا هذه المرحلة، وبالأخص ما تعلق منها بعقد الحماية، وأخبار سلطان علوي شغل الناس حيّاً وميتاً، هو المولى عبد الحفيظ العلوي (توفي سنة 1937)، واللحظات الأخيرة من حياته، ومشكلة البيعة المشروطة التي أودت بحياة أخيه الأكبر العلامة محمد بن عبد الكبير الكتاني سنة 1909، ولن نبالغ إن قلنا بالأهمية نفسها عند الباحثين في المشرق سواء في بلاد الشام أو مصر أو الحجاز، لما تضمنته المذكرات من أخبار عن شخوص وأحداث صنعت التاريخ السياسي والعلمي والثقافي لتلك البلدان، فالشيخ الكتاني شخصية اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها، والدليل عدد الشخصيات التي كانت تجمعه بهم صداقة أو لُقيا، من جميع أطياف المجتمع وجميع تلاوينهم، فمن السياسيين التقى الملكَ فؤاد، وسعد زغلول، وجمعته صداقة بالمارشال اليوطي (المقيم العام الفرنسي في المغرب حينها)، ورفيق بك العظم الدمشقي، والتقى الملك عبد العزيز بن سعود، إلى جانب المولى عبد الحفيظ والمولى يوسف في المغرب، والشيخ التفتازاني شيخ الطريقة الغنيمية، الذي يصفه الكتاني بالصوفي والسياسي الخطير في مصر وغيرهم كثير.

الشيخ الكتاني شخصية اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها، والدليل عدد الشخصيات التي كانت تجمعه بهم صداقة أو لُقيا

وأما العلماء والكتاب والأدباء، فحسب ما يذكره في مذكراته، فهو صديق للشيخ شكيب أرسلان، وقد جمعت بينهما مراسلات عديدة، كما التقى السيد بيوس الثاني عشر بابا الفاتيكان في زيارة خاصة. والتقى أيضاً طه حسين في النسخة 21 من مؤتمر المستشرقين العالمي بباريس، والتقى جورجي زيدان، والشيخ رشيد رضا، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ طاهر الجزائري، والشيخ زاهد الكوثري، والشيخ يوسف النبهاني، والشيخ محمد بخيت المطيعي، ومصطفى صادق الرافعي، والشيخ محمد شاكر وأبناءه أحمد ومحمود، وزكي باشا، وعباس باشا الخديوي والقائمة طويلة.

من الواضح أن الشيخ عبد الحي قد استفاد من النفوذ العلمي والسياسي الكبير الذي ورثه عن الزاوية الكتانية بفاس، وصلاتها العلمية والسياسية داخل المغرب وخارجه. ولذا، لم يكن ممكناً أن يعرض صفحاً عن التطرّق إلى حادثة مقتل أخيه الأكبر، بعد قبوله مُكرهاً بيعة السلطان المولى عبد الحفيظ سنة 1908، لكن بشروط، فصل فيها عبد الحي، لكن المثير في توثيقه هذا الحدث وصفه أخاه الأكبر بأنه لم يكن يعرف الزمان وأهله، ولا أساليب المداراة، وينصت لمجموعة من المهرّجين بحسب وصفه لهم.

يصف الكتاب لحظات دخول الوهابية بلاد المغرب، وما كانت تلقاه من دعم مالي من الحجاز

توثق المذكرات أيضاً الصفات الشخصية للسلطان المولى عبد الحفيظ، كاهتمامه بالأدب والنحو إلى جانب العلوم الشرعية، من دون عناية بغيرها من العلوم، حيث لم يكن يعبأ بما يقدّمه له الكتّاني من كتب في التربية والتعليم والاقتصاد التي من شأنها بحسب ادّعائه أن تنهض بالمغرب حينها. ويبين كيف أنه لم يكن يعرف كيف يبقي مناصريه بجانبه، وإنما كان يخذل الجميع ويستغني عنهم. ولهذا وصفه بالسلطان المحظوظ عندما جاءته فرصة الحكم وغير المحظوظ عندما أفسدها بما تميزت به طباعه، ورغم ذلك كله، لم تمنع الضغينة الكتاني من الاعتراف بحسنات، وصفها بالقليلة، للمولى عبد الحفيظ، بالأخص طباعته لبعض الكتب خارج بلاد المغرب مثل كتاب تفسير البحر المحيط لأبي حيان الغرناطي. وعموماً حملت المذكرات جرأة كبيرة في النقد والوصف لحياة هذا السلطان العلوي الذي عايش أشد لحظات المغرب تعقيداً وتحولاً.

ومن المواطن المثيرة أيضاً في المذكرات وصفه لحظات دخول الوهابية بلاد المغرب، وما كانت تلقاه من دعم مالي من الحجاز، ووصفه كذلك لقياه الشيخ رشيد رضا، الذي وصفه بصياغة قاسية، أنه أصبح لأجل المال وهّابياً جلداً، بعد أن كان عبدوياً صرفاً، نسبة لشيخه محمد عبده، فالمذهبان معاً لا يمكن أن يجتمعا في دماغ واحد بحسب عبارة الكتاني!، ووثق أيضاً مراسلة الشيخ رضا الملك عبد العزيز بن سعود يحذره من الكتاني وينعته بالقبوري.

ومن محطّات فارقة في المذكرات وصفه المهيب جنازة الأمير عبد الله بن الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق، مبيناً كيف اشترك في حمل النعش المغاربة والجزائريون وغيرهم، وكذلك وصفه للكمّ الكبير في الجنازة من الجزائريين في دمشق حينها، والذين بلغ عددهم بحسب عبارته عشرة ألاف شخص، يرتدون جميعهم لباساً تقليدياً جزائرياً في الجنازة، بل إن الكتاني يذكر أنه كان يستعمل علم الأمير عبد القادر في السيارة التي أقلته من بيروت إلى دمشق لتسهل عليه الحركة، ويذكر أنه بعد أن منحه الحفيد الأمير سعيد الجزائري هذا العلم ظل يحتفظ به في خزانته بالمغرب.

مذكرات الشيخ الكتاني وثيقة لا غنى عنها لكل من أراد أن يستوعب علاقة السلطة بالزوايا وبالدين عموما في البلاد المغاربية والإسلامية

أما شغف الكتاني الكبير الذي هو الكتب والمكتبات، فمما قد يصيب الإنسان العجب عند الاطلاع على جهوده الجبارة في جمعها، من كل مكتبات العالم وبلدانه. ولهذا يملك الرجل أهم الخزانات وأكبرها في تاريخ المغرب الحديث، والتي صودرت بعد استقلال المغرب. ولا ننسى صحبته للمستشرقين أيضاً كليفي بروفنسال، ودوكاستري، ومرسيه وليم وغيرهم.

وعموماً، فالمذكرات وثيقة لا غنى عنها لكل من أراد أن يستوعب علاقة السلطة بالزوايا وبالدين عموماً في البلاد المغاربية والإسلامية قاطبة، وهي أيضاً وثيقة تكشف عن الصلات التي جمعت العلماء بالحكومات الاستعمارية في بلدانهم، بل تكشف بعضاً من الأسباب التي جعلت الكثيرين منهم يتحولون من الوطنية إلى العمالة، أو يتموقعون في نقطة غير واضحة سياسياً، تجعلنا نعيد التفكير في صراع النخب لحظة انسلاخ البلدان الإسلامية من ثوبها القديم صوب الدولة القطرية الحديثة.

Read Entire Article