هل يمكن إحياء "منبر جدة" في خضم تصاعد القتال؟

7 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

<p>في حال&nbsp;فشل "منبر جدة" فإن استمرار الاعتماد على&nbsp;المسيرات والعمليات القتالية&nbsp;من شأنه أن يزيد &nbsp;الأزمة الإنسانية، ويُبقي السودان في دوامة العنف والفوضى (غيتي)</p>

في ظل مشهد تتمدد فيه دوائر العنف بلا أفق، تجاوزت الحرب السودانية الصراع على السلطة، إلى تآكل المؤسسات، وتراجع الشرعية، وتزايد الاعتماد على أدوات عسكرية نوعية مثل الطائرات المسيرة، في صراع بات يخترق النسيج المدني والمجتمعي على نحو غير مسبوق. ومع انسداد أفق الحلول نسبة إلى غياب لغة الحوار المباشر، برز "منبر جدة"، الذي أطلقته السعودية بالشراكة مع الولايات المتحدة في السادس من مايو (أيار) 2023، كإحدى أبرز محاولات الوساطة لإعادة تعريف مسار النزاع، وتحويله من ساحة صراع مفتوح إلى طاولة التفاوض.
لم تكن المبادرة تعبيراً عن تحرك دبلوماسي تقليدي، بل عن تصور أوسع لدور القوى الإقليمية في هندسة الاستقرار داخل دولة تتداعى. وقد مثل "إعلان جدة" مخرجاً أولياً لهذه الرؤية، إذ تضمن مبادئ إنسانية وسياسية تمهد الطريق نحو حوار يعيد تأسيس العملية الانتقالية، غير أن الانقسام العميق بين قوات الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، أدى إلى تعطيل المسار، مع تعليق المفاوضات أشهراً، مما كشف هشاشة التعهدات وضعف القدرة لدى الأطراف على التزام أي إطار جامع.

وفي أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2023، استؤنفت المحادثات بانضمام الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) كممثل إقليمي، لتوسيع قاعدة الشرعية السياسية للوساطة، لكن عدم التوافق على وقف إطلاق النار قاد إلى تعليق جديد في ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام. ومع تصاعد حدة الحرب المستمرة لعامها الثالث، عاد "منبر جدة" إلى الواجهة كمنصة تفاوضية بدفع سعودي – أميركي مشترك، وأكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في القمة الخليجية- الأميركية، التزام بلاده استمرار رعاية هذه المبادرة. وبينما تتعاظم التحديات بفعل رفض بعض الأطراف الانتظام في المسار السياسي، ينظر إلى الدبلوماسية الإقليمية بوصفها الإطار الأكثر واقعية، كمحاولة وإن لم تكن ضامنة، لمشروع صياغة سلام دائم ينطلق كمبادرة دبلوماسية طموحة تهدف إلى كسر الجمود في الصراع السوداني، من خلال الجمع بين الأطراف المتنازعة في بيئة حوارية.

تحولات نوعية

منذ تعليق جولة المفاوضات، شهد المشهد العسكري في السودان تحولات نوعية ومعقدة، قلبت موازين القوة على الأرض، وقلصت فرص التهدئة. ففي حين كان من الممكن تصور اتفاق مرحلي لوقف إطلاق النار، جاءت المستجدات الميدانية، وفي مقدمها تصاعد وتيرة استخدام الطائرات المسيرة، لتفتح فصلاً جديداً في النزاع، أكثر خطورة وتعقيداً من ذي قبل.
فعلى امتداد الأشهر الماضية استعاد الجيش السيطرة على معظم ولاية الخرطوم، باستثناء جيوب محدودة في أم درمان، مستفيداً من تماسك وحداته النظامية، ومن دعم عسكري نوعي من أطراف إقليمية، بحسب ما أشارت إليه تقارير متقاطعة. في المقابل، لجأت قوات "الدعم السريع" إلى تكتيكات مرنة تعتمد على الانتشار السريع، وعقد التحالفات مع مجموعات مسلحة أهلية وقوى سياسية معارضة، في مسعى إلى تأسيس سلطة موازية، مما ينذر بتكريس واقع انقسامي معقد.
لكن التطور الأخطر تمثل في توسيع نطاق الهجمات بواسطة الطائرات المسيرة، التي لم تعد مقتصرة على جبهات العاصمة، بل طاولت مدناً بعيدة مثل عطبرة وشندي وإقليم دارفور، وامتدت إلى بورتسودان، المقر الإداري الموقت للحكومة. هذا التطور لا يعكس التوسع الجغرافي فقط لرقعة الصراع، بل يعكس حال التسابق في استخدام طرفي النزاع قدرات قتالية بتقنيات متطورة.
تزامن التصعيد العسكري مع تشدد خطاب القيادة العسكرية، إذ أعلن الفريق البرهان، خلال مخاطبته قواته في أم درمان، أن خيار الحسم العسكري هو الطريق الوحيد، رافضاً فكرة العودة إلى طاولة التفاوض. هذا التصلب ترافق مع تعثر الجهود الدبلوماسية، على رغم إعلان المبعوث الأميركي للسودان توم بيريلو في أبريل (نيسان) الماضي، إعادة تفعيل "منبر جدة"، ولكن إحياء الوساطة لم يكن يسيراً، كما هو الآن، في ظل هذه المعطيات، إذ يواجه ذلك تحدياً مضاعفاً، من جهة، ضرورة احتواء التصعيد العسكري، ومن جهة أخرى استعادة ثقة الأطراف السودانية بجدوى المسار التفاوضي. ومع تعالي الأصوات المطالبة بتوسيع دائرة الرعاية الدولية للمنبر عبر إشراك مصر والإمارات، تبرز الحاجة إلى إعادة هندسة الإطار التفاوضي بما يراعي التوازنات الإقليمية.


مشهد متصدع

أما المشهد السياسي، فيبدو شديد التصدع مع تعاظم مسؤولية القوى السياسية، ليس فقط في السعي إلى وقف الحرب، بل في إعادة تأسيس العقد السياسي على أسس جديدة تنهي دوامة الحروب المتكررة منذ الاستقلال.
ظهرت مواقف القوى السودانية من "منبر جدة" على نحو يعكس عمق الانقسامات، واختلاف الرهانات السياسية، بل وأحياناً داخل الكتلة الواحدة. ففيما أبدى حزب الأمة (الإصلاح والتجديد) بقيادة مبارك الفاضل انتظاماً مبكراً في دعم المنبر، معتبراً إياه أداة فاعلة للوساطة الدولية ونافذة للعودة السياسية، اتخذ حزب الأمة القومي (الأصل) موقفاً أكثر تحفظاً، منتقداً ما يراه إعادة إنتاج للعسكرة، من دون أن يغلق الباب أمام التفاعل المشروط مع جهود "إيغاد" والاتحاد الأفريقي.
أما "قوى إعلان الحرية والتغيير - المجلس المركزي"، فاتسم موقفها بالحذر والترقب، إذ تؤيد مبدأ الوساطة الدولية في ظل انسداد الآفاق الداخلية، لكنها تحذر من احتكار المنبر من قبل الأطراف العسكرية، وتطالب بتوسيعه ليشمل القوى المدنية الثورية، وتحويله إلى منصة انتقال سياسي شامل.
في المقابل، يتخذ الحزب الشيوعي السوداني موقفاً راديكالياً، يرى في "منبر جدة" مجرد غطاء لإعادة تقاسم السلطة بين العسكر وتحالفات "انتهازية" برعاية دولية، رافضاً أي مسعى لا يستند إلى تغيير جذري في بنية السلطة. ومع ذلك يبقى تأثير الحزب محدوداً بفعل تراجعه الجماهيري والتنظيمي.
على صعيد الحركات المسلحة، عبر رئيس "الحركة الشعبية- التيار الثوري"، ياسر عرمان عن دعم حذر للمنبر، معتبراً الزخم السعودي - الأميركي فرصة للسلام، أما "حركة تحرير السودان" جناح عبدالواحد نور، فرفضت المنبر وعدته إقصائياً، بينما ربطت حركة "العدل والمساواة" مشاركتها بضمانات حول العدالة والسلطة، في حين تمسكت "الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال" جناح عبدالعزيز الحلو بضرورة تضمين مطالب الحكم الذاتي، وطرحت "حركة تحرير السودان" جناح مني أركو مناوي تصوراً أكثر براغماتية، مشددة على حياد الوساطة وعدالة التمثيل.
أمام هذا التباين العميق، يواجه "منبر جدة" تحدياً آخر، إذ يمكن تبرير هذه القوى لعدم انضمامها للوساطة بأنها لا تعالج جذور الصراع البنيوي، ولا تضمن شمولاً حقيقياً وتمثيلاً عادلاً لجميع الأطراف.


تباين المواقف

أظهرت الخطوة الأخيرة نحو إحياء "منبر جدة" تبايناً في شأن مستقبله، بين من يرون إمكان إحيائه كمسار تفاوضي فاعل، وأنه لا يزال يمثل نافذة ممكنة لتقريب وجهات النظر ووقف الحرب كمدخل لحل سياسي شامل. وبين من يعتبرونه إطاراً لرؤية "متفائلة" قد لا تستطيع معالجة تعقيدات الأزمة السودانية. ويستند الطرفان إلى جملة من المعطيات التي تشكل رؤيتهما مسار المنبر ومآلاته.
يرى مؤيدو إحياء "منبر جدة" أن هناك فرصة حقيقية لإعادة تفعيله، انطلاقاً من الدعم السياسي المتجدد. هذا الزخم السياسي يعززه أيضاً الاعتراف الدولي بالمنبر، بوصفه الإطار التفاوضي الذي حظي بدعم مشترك من السعودية والولايات المتحدة، مما يمنحه شرعية دولية يصعب تجاهلها أو تجاوزها.
إضافة إلى ذلك يراهن المؤيدون على غياب البدائل الواقعية، إذ لم تثمر المبادرات الدولية والأفريقية عن نتائج ملموسة، مما يجعل "منبر جدة" الخيار المتاح الأكثر نضجاً، كذلك فإن بعض الإشارات الإيجابية الصادرة عن قادة سودانيين تعكس استعداداً مبدئياً للعودة إلى طاولة الحوار، خصوصاً مع تصاعد الضغوط الدولية لوقف النزاع، هذا إلى جانب ما يعتقد أنه مرونة هيكلية في المنبر، تتيح إعادة صياغته وتطوير آلياته بما يواكب التحولات الجارية في المشهد السوداني.
في المقابل، يبدي المشككون في جدوى إحياء "منبر جدة" تحفظات عميقة، تستند أولاً إلى تجربة التوقف السابقة، التي جاءت نتيجة إخفاق الأطراف في تنفيذ إجراءات بناء الثقة بعد توقيع إعلان المبادئ. هذا الفشل أضعف الثقة المتبادلة، وألقى بظلال من الشك على فاعلية المنبر كوسيط موثوق، كذلك فإن المتغيرات الميدانية، المتمثلة في التصعيد العسكري وتغير موازين القوى على الأرض، جعلت بعض الأطراف ترى أن العودة إلى التفاوض لا تصب في مصلحتها، بل ربما تؤخر تحقيق مكاسب عسكرية محتملة.
وزاد من تعقيد الصورة، الانقسام الداخلي بين القوى السودانية، سواء داخل المعسكرات العسكرية أو المدنية، مما صعب تمثيلها في منبر تفاوضي موحد، كذلك فإن تراجع الزخم الأميركي المباشر، مقارنة بما كان عليه في بدايات المنبر يضعف من الضغط الدولي اللازم لدفع الأطراف نحو التفاهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيناريوهات محتملة

السيناريو الأول، استمرار التصعيد العسكري وفشل الوساطة، إذ ربما يكثف طرفا النزاع عملياتهما العسكرية، مع تصاعد نوعي في استخدام المسيرات والضربات الجوية، إلى جانب شن هجمات برية تعمق الخسائر في الأرواح والبنية التحتية، لا سيما في المناطق الحضرية والمراكز الحيوية. ويمكن أن تتدخل مصر وإثيوبيا وتشاد في محاولة لفرض واقع جديد يخدم مصالحها الاستراتيجية، أما المجتمع الدولي فيعاني تحديات لتطبيق وتنفيذ القرارات والعقوبات، وفي حال استمرار الجمود السياسي الإقليمي والدولي، وتنامي الشكوك المتبادلة بين طرفي النزاع، فإن هذا السيناريو سيكون الأكثر ترجيحاً.
أما السيناريو الثاني فيشهد تصعيداً محدوداً مصحوباً بضغط دبلوماسي مكثف، إذ لا يتوقع وقف القتال مباشرة، ولكنه يستمر بوتيرة منخفضة، مما يسمح بتزايد الضغوط الدولية والإقليمية لإعادة طرفي النزاع إلى طاولة المفاوضات. في هذا السيناريو ستلعب دول الخليج خصوصاً السعودية والإمارات دور الضامن، بتنسيق مع جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي وحشد دعم إقليمي متوازن يشمل القاهرة وأديس أبابا، لضمان استقرار المنبر وتوسيع قاعدة التوافق بالتوازي. وتستخدم الأمم المتحدة أدواتها الدبلوماسية لفرض وقف إطلاق النار، مع إمكان إرسال بعثات مراقبة وتقديم حوافز إنسانية واقتصادية لتشجيع الانتظام الإيجابي.

أما السيناريو الثالث فربما يحدث تصعيداً متوازناً تليه مرحلة دخول أطراف جديدة، يتسع على أثرها نطاق النزاع الجغرافي بفعل انتظام مجموعات مسلحة جديدة، مما يخلق مشهداً معقداً وغير مستقر. هذا الانقسام يولد فراغات أمنية تستغلها قوى إقليمية لصياغة ترتيبات نفوذ بديلة، فيما تحاول مصر حماية مصالحها المائية، وتسعى إثيوبيا إلى ضبط حدودها ومنع ارتداد الفوضى.
في المقابل، تتعامل القوى الدولية مع الأزمة بوصفها ساحة صراع جيوسياسي مستتر، مما يؤدي إلى تباين المواقف وفقدان الزخم في المبادرات الجماعية. وبدل التقدم نحو تسوية تتحول الأزمة إلى نزاع مزمن مفتوح على كل السيناريوهات، وينتج منه إضعاف "منبر جدة"، وتفكك آليات الوساطة القائمة، مقابل تصاعد الدور العسكري والسياسي للفاعلين غير الرسميين، مما يعمق الكارثة الإنسانية، ويؤسس لصراع طويل الأمد.


توازنات دقيقة

 تمثل محاولة إحياء "منبر جدة" نقطة تحول جوهرية في مسار الحرب السودانية، إذ تعكس تعقيدات المشهد السياسي الداخلي وتداخل أبعاده الإقليمية والدولية بطريقة تفرض قراءة دقيقة لموازين القوى والتحولات الاستراتيجية في المنطقة.

ويسهم استخدام الطائرات المسيرة، جنباً إلى جنب مع العمليات البرية والجوية المكثفة، في زيادة خسائر المدنيين وتدمير البنية التحتية، وهو ما يجعل النزاع أكثر صعوبة في الإدارة وأبعد عن الحلول السريعة، ويحد بشدة من هامش المناورة السياسية المتاح للوسطاء الدوليين والإقليميين. وفي هذا السياق يرتبط نجاح "منبر جدة" بصورة وثيقة بقدرته على استيعاب هذه المتغيرات الديناميكية.
يعد الدور الذي تضطلع به دول الخليج محورياً في دعم جهود الوساطة، إذ تستدعي المرحلة الحالية تحقيق توازنات دقيقة بين الداخل السوداني ومحيطه الإقليمي بما فيه الأمن، من أجل ضمان قبول واسع النطاق وشمولية تمثيلية. هذا التوافق ليس هدفاً في حد ذاته، بل هو شرط أساس لوقف موثق لإطلاق نار، وربط ذلك بخريطة طريق سياسية واضحة تمكن من تحقيق انتقال سياسي سلس واستقرار مؤسسي طويل الأمد.
وفي حال الفشل فإن استمرار الاعتماد على الطائرات المسيرة والعمليات القتالية المكثفة، من شأنه أن يعمق الانقسامات الداخلية ويزيد من الأزمة الإنسانية، مما يبقي السودان في دوامة العنف والفوضى السياسية، ويقوض قدرة المجتمع الدولي والدبلوماسية الخليجية على فرض حلول سياسية فاعلة، كما يزيد من أخطار تمدد النزاع وتأثيراته السلبية في الأمن والاستقرار الإقليميين.
يعد "منبر جدة" أداة ذات إمكانات دبلوماسية كبيرة، لكنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإرادة سياسية جادة من الأطراف السودانية، وبالتوافق الإقليمي والدولي حول أولوية السلام وليس مجرد إدارة الأزمة. إن نجاح هذه الوساطة يستوجب تجاوز الحسابات الضيقة والرهانات الموقتة، وفتح آفاق جديدة للحوار الوطني، إذ تتجسد الدبلوماسية المتعددة الأطراف كآلية فاعلة في تحقيق الأمن والاستقرار ليس فقط للسودان، بل لمنطقته الإقليمية الوسعى.

subtitle: 
يعد أداة ذات إمكانات دبلوماسية كبيرة لكنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإرادة سياسية جادة من الأطراف السودانية
publication date: 
الاثنين, مايو 19, 2025 - 18:30
Read Entire Article