ARTICLE AD BOX
تظلّ الكتب هي هدية من هناك، هدية من عالم آخر، هدية كانت تطلبها روحك من دون أن تعرف أنت نفسك من أيّ مكان تصلك تلك الهدية، هدية خصّيصاً لروحك أنت، وكأنّك كنت تنتظرها، واليوم جاءتني الهدية من أقرب البلدان لي، من ليبيا، ومن هشام مطر، في كتابه التأمّلي الهادئ "هشام مطر وشهر في سيينا"، بترجمة أكثر من رائعة لزوينة آل توية من عُمان. الكتاب صادر في طبعته الإنكليزية في 2019، وفي طبعته العربية الأولى عن دار الشروق في 2025.
الكتاب رحلة تأملية لهشام مطر (يقيم في لندن منذ أكثر من أربعين سنة) إلى مقاطعة إيطالية هادئة و"مدينيّة"، مدينة منعزلة عن قوانين الكنيسة برمتها، بقانونها المدني الخاصّ بها من دون بقيّة المقاطعات الإيطالية كلّها؛ وكأن هشام كان مدينة أخرى منعزلةً ومدينيّة تحكي نفسها لنفسها من دون بلاغة، ومن دون ارتفاع صوت، مدينة تأمّلية كتوم مثل سيينا. هو يرحل إلى سيينا ويقترب من هشام كي يحكي ألمه الذي عاناه، وبحثه الدائم عن مكان الأب الذي اختُطف من القاهرة في 1990، ورحّل إلى ليبيا، لأنه معارض، في طائرة غامضة بلا هُويَّة، ولم يظهر بعد، إنها عادة تعاون السلطات دائماً في الخير وفلاح الأنظمة وسدادها مهما كانت، ضدّ الفرد الأعزل.
هل كانت تلك مقدّمة تاريخية ساعدت هشام مطر أن يرفع عن صدره ذلك الحجر الثقيل في مدينة سيينا، ويلقي به بعيداً من بحيرة أحزانه، كي يكون ذلك هو تلك الرحلة التأملية الهادئة في شكل كتاب أو في شكل هدية لكلّ صاحب فقد في هذا العالم من دون أن يملك ترف النسيان؟
مدينة من لوحات من الفنّ الجداري الذي اشتُهِر خلال ثلاثة قرون (من القرن الثالث عشر إلى الخامس عشر)، وصارت اللوحات هي حقيقة المدينة ودستورها المرسوم على جدارياتها، مرّة يشار إلى المظالم، ومرّة يشار في اللوحات إلى العدل، كلّ اللوحات بالطبع من التراث المسيحي الديني بريشات فنّانين عظام، عمّروا تلك المدينة، لا بمواعظهم، ولكن بلوحاتهم، فصارت المدينة لهم، وهم للمدينة، من دون حاجة إلى نظم كنسية، أو مواعظ، أو دساتير؛ اللوحات هي معجزة الفنّانين للوصول إلى العدل من دون جيوش جرارة، أو سجون، أو طائرات غامضة لخطف المعارضين، هل المهم في المدينة هي اللوحات، أو حكاية هشام مطر؟ أم لقاء الغرباء فيها كما صادف هشام المرأة النيجيرية بعد ربع قرن من الإقامة، ولا همَّ لها بعد الحصول على جواز السفر سوى زيارة بلادها، أو ملاقاة هشام بالأسرة الأردنية البسيطة التي اختارت العيش في تلك المدينة؟ أم المهم كيف ألقى هشام عذاباته كلّها، هكذا دفعة واحدة، في تلك المدينة خلال ذلك الشهر؟ أم أن الهدية الأكبر كانت ديانا، تلك الزوجة التي جمّلت كلّ مشاهد الرواية، سواء في حضورها أو في غيابها؟
الكتابة تصنع غايتها من دون النظر إلى الحكاية أو إلى السياسة، أو إلى فقد الأدب أيضاً، الكتابة هي زينة نفسها وهي حصانها الرابح، حتى إن كانت رحلة مشوّقة إلى مدينة ما من دون أن يعرف صاحب الرحلة السبب الحقيقي.
الكتابة الجميلة لا تُوصَف، لأنه يصعب وصفها، ويصعب أيضاً أن تعرف لماذا فتنتَ بها، كما فتن هشام نفسه باللوحات "السيينية"، كالبشارة أو شفاء الرجل المولود ضريراً، لأنه يبحث عن الأمل في الحياة وفي الكتابة أيضاً، أو في الطفلَين الأردنيَّين. وكما فتن بالمدينة نفسها، وكما آلمته حكاية فقد الأب طيلة هذه السنوات، رغم أن هشام قد حاول بذكاء الكتابة نفسها أن لا يعمّق ذلك الجرح داخله، كي لا يلتهم ذلك الجرح منه الكتابة والكتاب، بل ظلّ هشام يتحدّث عن غياب الأب، ككلمتَين إيطاليَّتَين كان يذكرهما الأب له حينما يعود من إيطاليا وهو طفل، قبل اختطافه، أو ذلك المنديل الورقي الذي بقي للعائلة في ملابسه بعد غيابه، وكأنّها تميمة أخرى تحمي لهم غيابه، تميمة ذكرى من شخص غائب منذ أكثر من ثلاثين سنة.
في سردية جارحة، هي استهلالة حزن هشام في كتابة تقول كلّ شيء: "في عام 1990 عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، وما زلت طالب جامعة في لندن، أصبحت مفتوناً على نحو غامض بالمدرسة السيينية للرسم، التي غطّت القرون الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، كنت قد فقدت أبي في ذلك العام، كان يعيش في المنفى في القاهرة، وذات أصيل اختطف، زجّ به في طائرة بلا معالم وطارت عائدة إلى ليبيا".
كلمات قليلات قالت الجرح، وهكذا قاد هشام جرحه الخاص إلى اللوحات، فكانت الكتابة، كتابة يُنصَت إليها رغم قلّة البوح، ولكن بهدوء الحزانى استطاع هشام أن يصل بحزنه إلى نفسه، وإلينا، وإلى تلك المدينة التي كانت حلمه من زمن.
