ARTICLE AD BOX
ألا يفترض أن تكون معارض الكتاب في صدارة الفضاءات التي تجد فيها الذوات الكاتبة راحتها، لا سيما أنها تلتقي فيها مع الذوات الشّبيهة في شغف الكتابة والقراءة؟ غير أنه ما إن يدخل الزائر معرض الدوحة الدولي للكتاب؛ الذي افتتح دورته الرابعة والثلاثين، الخميس الفائت، حتّى يتمنى ألا يلتقي أحداً يعرفه. وهكذا تمنّيت ألا ألتقي أحداً أعرفه، كي لا يشوّش عليّ، فأتفرّغ لقراءة المكان بصفته كتاباً، وبصفته مدخلاً لمعرفة إن كان القوم، حقّاً، يملكون تصوّراً حضاريّاً.
كنتٌ أتفادى أجنحة الأصدقاء، أقصد دور النشر التي أعرف أصحابها، حتى أضمن التحليق بمفردي، بعيداً عن أي إملاء من دليل أو مرافق. ولم تمضِ إلا خمس دقائق، حتى عرفتُ أن معرض الدوحة، الذي تتواصل فعالياته حتى السابع عشر من مايو/أيار الجاري، من النوع الذي يشرح نفسه بنفسه.
يكفي أن يعاين الزائر أجنحة المعرض ليفهم أنّ هناك رؤية حضارية وتجارية خلفه، أي إنّه في تفاصيله الصغيرة والكبيرة، ثمرة لثنائية الجمال والمال، بل للجمال بصفته مالاً وللمال بصفته جمالاً، وهو المقام الذي تكون فيه الرأسمالية نائية عن التوحّش.
رؤية حضارية وتجارية تجمع بين الجمال والمال لخدمة الثقافة
في تلك اللحظة بالذات ابتسم لي كتاب "رأس المال" لكارل ماركس، على بعد خطوات، ففي معارض الكتاب، لا بدَّ من وجود علاقة روحيّة مع الكتب، فتكون بين الزائر وبينها ابتسامات وتلويحات وغمزات، تماماً مثلما تكون بينه وبين الأصدقاء من البشر، وهذا كان سبباً إضافياً لأمنية عدم اللقاء مع الآخرين.
أحبُّ المقامات التي يلتقي فيها ما يبدو أضداداً، فلعلّها هي المفاصل الوحيدة التي يرتاح فيها الفهم. ألسنا أمّة يكبر فيها الفرد ميّالاً إلى أحد النّقيضين في المسألة الواحدة؟ وقد وفّر معرض الدّوحة أكثر من فرصة لأن أعيش بعض تلك المقامات.
ففي مساحة وجيزة جداً، استعملت لوحاً للذكاء الاصطناعي كتب "لي" شعراً تحت الطلب، واستمعت إلى حكواتيّين يقدّمون أنفسهم للجمهور، بطريقة محببة وجذابة، على أنّهم عنترة بن شداد العبسي والعمّة تماضر المعروفة بالخنساء وأبو الطيب المتنبي وبدر شاكر السيّاب وأبو القاسم الشابي، فتجدّد لدي الانتباه، إلى أنني بصفتي شاعراً يكتب بالعربية، خرّيج شعرية موغلة في الاحتفاء بقيمة التحرّر في بعدها الفلسفي والوجودي.
فالأوّل غادر بالكلمة - القصيدة مقام العبودية إلى مقام السيادة. والثانية غادرت مقام خباء البيت، بصفتها امرأة عربية ولدت منذورة للوأد، إلى خباء الشعر في سوق عكاظ. والثالث غادر مقام الشاعر المكتفي بمدح الملوك إلى مقام التطلّع إلى المُلك. والرابع غادر مقام أوزان الخليل إلى مقام أوزان المعيش. والخامس غادر مقام الاستكانة في مفصل عربي رازح تحت نير الاحتلال الغربي إلى مقام الفعل المرتبط بإرادة الشعب الذي يريد الحياة. لم أدرِ هل أصوّر هذا الخماسي أم أحتضنه؟ لقد جسّد فعلاً شعار المعرض "من النّقش إلى الكتابة"، كما جسّد روح التحرر والانعتاق التي تتلبّس فلسطين التي اختيرت ضيفة شرف الدورة، بصفتها حاملة لواء الشرف العربي، في اللحظة القائمة.
كان يهمّني استطلاع انطباعات الغربيّين من ناشرين وزائرين
من بين خمسمائة واثنتين وعشرين دار نشر مشاركة في الدورة الرابعة والثلاثين لمعرض الدوحة، أحسست أنني حرٌّ في زيارة ما أشاء منها، لكنني شعرتُ بوجوب زيارة الدور الإحدى عشرة الفلسطينية، لأرفع قبعة الاحترام للقائمين عليها، وأقول لهم إنّني أنا الجزائري حفيد المليون والنصف من الشهيدات والشهداء، استحيت أن أتجاوزكم.
كان الجميع يسوّقون الكتب، ما عدا الناشرين الفلسطينيّين كانوا يسوّقون القضية، فتهيّأت لي أجنحة كتبهم منصّاتٍ بديلة لمنصّات إطلاق الصّواريخ، فكنت أشعر بكوني استلمت صاروخاً كلّما استلمت منهم كتاباً.
كان يهمّني، بصفتي عربياً، أن أستطلع انطباعات الغربيّين، من ناشرين وزائرين، فكنت أتحادث مع بعضهم، وأرصد ملامحهم عن بُعد. وخلاصة ما أدركته أنّ العرب مظلومون في المخيال الغربي العام، إذ ما زال يُنظر إليهم من خلال صور نمطية تربطهم بالتخلّف، والإرهاب، ورفض الآخر. ذلك أن الصورة المتداولة عنهم لا تزال تكرّس هذا الاتجاه.
قال لي كارلوس، من أميركا اللاتينية، وهو من أحفاد مهاجر لبناني في الجيل الثالث: "يكفي أن يتعرّف الغربيون إلى المشاهد الحضارية الراهنة في العالم العربي، كمعرض الدوحة للكتاب، حتى يبدأوا بتصحيح نظرتهم تجاهه. فشريحة واسعة منهم ليست عنصرية، بل واقعة تحت تأثير معلومات مغلوطة. وعلى الحكومات العربية أن تتحمّل مسؤولية تصحيح هذه الصورة".
كان كارلوس يحمل نسخة بالإنكليزيّة من "نبي" جبران خليل جبران، وقد قال جملة موجعة: "لماذا كان أمثال جبران سفراء الثقافة العربية في الفضاء الغربي، فصار أمثال بن لادن والبغدادي هم من يمثّلونها".
لا أحبُّ الانحياز خارج معيار الجمال، فأنا أنحاز عفوياً إلى الأصوات الجميلة التي تدعو جمهور معارض الكتاب إلى نشاط أدبي أو فنّي. لقد كنت أقاطع بعضها في بعض المعارض، لأنّ الصوت الداعي عادة ما يكون رديئاً. لكن مذيع معرض الدّوحة أربكني بجمال صوته ولغته، فلم أستطع في بعض الأحيان أن أفصل في طبيعة النشاط الذي أحضر في "الصالون الثقافي".
كان معظمها يهمّني بصفتي "فضولياً تهمّه الأشياء"، بتعبير جون بول سارتر في تعريفه للمثقّف، فكنت أخضع للرغبة وإكراهات الوقت، إذ لم يكن أمامي إلا يومان، قبل العودة إلى الجزائر، فكنت أحضر شطراً من هذه الجلسة، ثمّ أغادر على مضض إلى جلسة أخرى، حتى انتابني إحساس بأنّي تحوّلت إلى نحلة، فرحت أتلمّسني لأتأكد من الأمر. ماذا لو صرت نحلة؟
تحوّل هذا السّؤال إلى فكرة لقصّة، ما إن واجهني جناح "المركز القطري لأدب الطفل"، أنا الكاتب المتخصّص في "أدب البيت"، حتى إنني أطلقتُ قبل أسابيع في الجزائر جائزة لأدب الفتيان. وانشغلت عن الفكرة، ما إن واجهني صديقي الخبير الدولي في التنمية البشرية فاتح الأشهب بكتاب "أبو نيّة ومخبأ الأسرار" الذي استثمرت فيه الكاتبة أسماء عبد اللطيف الكواري بسلاسة رائعة، بعض الحكايات الشعبية الجزائرية.
لقد جعلني مقام الطفولة ذاك أقف مثل طفل أمام اللوح الإلكتروني الذي كان يعلن عن عودة مجلة الدوحة التي كانت من المجلات العربية التي شكّلت الوعي القرائي لجيلي، فانتابتني رغبة في اقتحام اللوح لأتقبّض على نسختها الورقية.
تريدون تلخيصاً مكثّفاً لمعرض الدوحة؟ إنه يستعمل التكنولوجيات الحديثة، في توريط زائره قرائياً، فيمدّ يده عفوياً للكتب.
