ARTICLE AD BOX
لم يأت تصريح المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية توم باراك، بشأن الإقرار بأخطاء نجمت من تطبيق اتفاقية سايكس بيكو 1916، والاتفاقات التي كانت ضمن إطارها العام، خصوصاً التي صيغت في مؤتمر سان ريمو 1920، والاتفاقية الفرنسية التركية (اتفاقية أنقرة الأولى 1921)، وصولاً إلى معاهدة لوزان 1953، والإقرار بإخفاق سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية قرناً كاملا، لم يأتِ بجديد لا تعرفه شعوب منطقتنا، التي وجدت نفسها بعد انقشاع غبار الحرب العالمية الأولى محشورةً ضمن دائرة حدود رُسمت في مكاتب المسؤولين الغربيين بالمسطرة والفرجار. وكان ذلك وفق حسابات دولهم ومصالحها، لا بناءً على رغبات الشعوب أو مصالحها في تلك الكيانات الوليدة، التي أعلنت بعد الحرب دولاً قادتها أنظمةٌ حاكمةٌ مختلفةٌ، لكنّها تشاركت سمةً أساسيةً تمثّلت في تعاملها مع تلك الحدود بوصفها مقدّسة، رغم معرفة الجميع بأنها مفروضة من دول كانت بعد الحرب من القوة إلى الحدّ الذي مكّنها من فرض مشاريعها وإرادتها على دول المنطقة، والقوى الدولية المنافسة، في حين أن الشعوب في منطقتنا كانت مغلوبةً على أمرها، لا تمتلك قدرةَ الاعتراض، ولا المواجهة الفعلية. وحينما حاول الغيارى على أوطانهم وشعوبهم أن يعترضوا على ما كان يحصل، وخرجوا في انتفاضات وثورات، كانت الخسارات هي النتيجة في معارك غير متكافئة بكلّ الأشكال.
لبلوغ قواعد العيش المشترك ينبغي إزالة الهواجس المتراكمة لدى الناس، على مستوى الجماعات والأفراد، بعقود مكتوبة واضحة لا تحتمل التأويل
يتكامل كلام باراك (بل يتطابق) مع ما ذهب إليه الرئيس دونالد ترامب في أثناء زيارته الرياض، حين أشاد بتجربة السعودية من جهة نجاحها اللافت، والأكثر أهميةً في ذلك النجاح، أنه (وفق ما ذهب إليه ترامب) تحقّق بالانسجام مع خصوصية المجتمع السعودي، ولم يكن حصيلةَ تقليد نموذج وافد أو مقحم مفروض بنزعة تبشيرية من الغرب.
واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على تقسيم المنطقة، ورسم الحدود السياسية بين شعوبها بناء على مصالح القوى الدولية الاستعمارية، أصبحت الدول المُستحدَثة، تلك التي تحكّمت الأنظمة العسكرية بمعظمها، أكثر ضعفاً نتيجة الفساد والاستبداد، في حين أن الدول المُتحكِّمة التي أوجدتها باتت أقوى ممّا كانت عليه بأضعاف أضعاف المرّات، بفعل التقدّم التكنولوجي غير المسبوق، سيّما في ميادين الذكاء الاصطناعي. هذا التقدّم الذي كان يُصنَّف قبل ثلاثة أو أربعة عقود في عداد الخيال العلمي. فهذه الدول هي اليوم في موقع القادر على فرض الخطط والمشاريع بأساليب القوة الناعمة، ومعاقبة الحكومات، وحتى تغييرها إذا لزم الأمر. وقد أدركت شعوب منطقتنا وقواها السياسية، ولو متأخّرةً، هذه الحقيقة، بينما لم يعترف أصحاب الأيديولوجيات، الذين غالباً ما يتبعون أجندات عابرة للحدود لا تحافظ على مصالح بلدانهم وشعوبهم، بهذه الحقيقة المرّة. والمقصود هنا الأيديولوجيات القومية والدينية، بالإضافة إلى اليسارية العلمانية، فهؤلاء يرفضون الإقرار بالحقائق الواضحة رغم معرفتهم الأكيدة بإنسداد الآفاق أمامهم، ويرفعون شعاراتٍ كُبرى تنسجم مع نزعتهم الشعبوية، ويهدّدون الخصوم بمختلف الأساليب، بما في ذلك اتهامهم بالخيانة والكفر، وهم يعيشون حالة انفصامٍ عن الواقع، يمارسون الغطرسة والتبجّح من دراسة الأمكانات وفهم المتغيّرات. وذلك كلّه يحول بينهم وبين التركيز في مشاريع وطنية كانت (وما زالت) تمثّل المَخرج الآمن للمحافظة على جغرافية دول ما بعد الحرب، وهي الدول التي كانت (وما زالت) ميداناً لنقاشات وجدالات عقيمة بين الماضويين، بتيّاراتهم المختلفة، بشأن السبق الزمني والأحقية التاريخية. واللافت اتهام كلّ طرف الآخر، أو الأطراف الأخرى، بالانتقائية والتزييف والتشويه. أمّا النتيجة، فتتشخّص راهناً في استمرارية المشكلات، وعدم التوصّل إلى حلول توافقية وطنية، كان من شأنها طمأنة الجميع وإرضائهم. هذه الإشكالات عانت منها (وما زالت تعاني) دول منطقتنا، التي تتسم بالتنوّع الديني والمذهبي والإثني، خصوصاً في العراق وسورية ولبنان، وفي الجزائر والسودان واليمن ودول أخرى، في حين أن المنطق السليم كان يوجب الإقرار بالواقع القائم والتعامل معه بعقلية إبداعية بعيدة النظر، تراعي الإمكانات والحاجات والتحدّيات.
تفتقر اللغة الطائفية العنصرية المنبثقة من عقلية جمعية ثأرية إلى أبسط مقوّمات النضج الوطني، والاتساق العقلي المنطقي
وكان من شأن مثل هذا الإقرار أن يدفع أصحاب الشأن والتأثير نحو التفكير في كيفية تحسين قواعد العيش المشترك بين المكوّنات المجتمعية المتنوّعة، والعمل من أجل ذلك. ولبلوغ هذا الهدف، تُبرِز الضرورة أهمية إزالة الهواجس المتراكمة لدى الناس، على مستوى الجماعات والأفراد، وذلك بعقود مكتوبة واضحة لا تحتمل التأويل. فالناس، بناءً على التجارب المريرة السابقة في منطقتنا، وهي التجارب التي عاشوها، أو على الأقلّ قرأوها أو سمعوا بها، وعانوا من آثارها، لديهم خوف مشروع من المستقبل، خصوصاً في مناخات الغموض، وغياب الشفافية، والممارسات الهجينة غير المتّسقة. ولكن إلى جانب ذلك، علينا أن نأخذ في اعتبارنا حقيقة أن النصوص وحدها لا تكفي، بل تحتاج هذه الخطوة، على أهميتها، خطوة أخرى لا تقلّ عنها أهمية، بل ربّما تتجاوزها في هذا المجال، والمقصود بذلك تعزيز اجراءات الثقة، وهذا لن يتحقّق بالمجاملات والخطابات العاطفية المنمّقة، وإنما بخطوات فعلية حقيقية، يتم تلمّسها واقعاً في الأرض.
وحتى تكون هذه العملية متماسكةً متكاملةً مستدامةً، لا بدّ من التوافق على آلية لحلّ الخلافات التي ستحدث، شاء المرء أم أبى. والتباينات والاختلافات والخلافات من الظواهر الطبيعية، إن لم نقل الصحّية، ما دمنا نحترم حقّ الآخر المختلف في التعبير عن رأيه بحرية، وبممارسة النقد والاعتراض على ما يعتبره خللاً أو خطأً. لذلك سيكون من المفيد أن تكون هناك آلية للتعامل مع الخلافات بغية تذليلها، عبر مؤسّسات قانونية دستورية، صلاحياتها وقواعدها واضحة، وأحكامها القضائية نافذة، والجميع أمامها في قضايا المساءلة والمحاسبة سواسية من دون أي تمييز موجب أو سالب. إلا أن التوافق على هذه الخطوات الثلاث سيكون عسيراً (إن لم نقل مستحيلاً) في أجواء طغيان اللغة الطائفية المذهبية البغيضة، والقوموية العنصرية المقيتة، خصوصاً في مجتمعات متنوّعة متعدّدة، مثلما هو عليه الحال في كلّ من سورية والعراق ولبنان وغيرها من الدول. فهذه اللغة المنبثقة من عقلية جمعية ثأرية تفتقر إلى أبسط مقوّمات النضج الوطني، والاتساق العقلي المنطقي، وهي تعتمد أسلوب تبنّي الأحكام المسبقة، التي قد تكون في صيغة كليشهات مكرّرة ممجوجة، توصف بها مكوّنات دينية أو مذهبية أو قومية بأكملها، من دون أيّ بحث أو تدقيق، أو تكليف النفس بضرورة التمييز بين مواقف التيّارات والأحزاب والأفراد ضمن هذا المكوّن المجتمعي أو ذاك، وهذا مؤدّاه تكريس ذهنية "نحن وهم". نحن "الأمّة المصطفاة" وهم "الأشرار". نحن أصحاب الحقّ والوطن، وهم الدخلاء الأغيار مصدر الشرور والمخاطر. وغالباً ما يكون مصدر ترويج هذه الأطروحات الزائفة، وتلك المقابلة لها، مجموعة من الناس ممّن يجهلون التاريخ القديم والوسيط للمنطقة، بل يجهلون حتى مجريات التاريخ الحديث والمعاصر، وخلفياته، خلال مرحلة إعلان تشكيل هذه الدول بموجب الاتفاقيات الاستعمارية بعد الحرب. لذلك، يلاحَظ أن هؤلاء المروّجين يتعاملون مع الحدود القائمة بين الدول المعنية وكأنّها حدود مقدّسة كانت منذ الأزل، وينبغي أن تستمرّ إلى الأبد. ولعلّ هذا ما يفسّر اعتبارهم شركاء الوطن والمصير "خصوماً"، بعد أن حشرتهم اتفاقات سايكس بيكو وإفرازاتها ضمن كيانات جغرافية، اقتطعت ولصقت وفق حسابات المستعمرين الإمبريالية؛ ومن دون أن يكون للناس داخل تلك الأوطان، التي ستصبح دولاً، أيَّ رأي، بل حتى معرفة بما كان يجري.
تحمّل مجتمعاتنا بقواها السياسية ونُخبها وتيّاراتها الشعبية مسؤولية الإسهام في تبلور مجتمعات وطنية حقيقية
واليوم يقرّ المبعوث الأميركي باراك بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها القوى العظمى بعد الحرب العالمية الأولى في منطقتنا، سيّما في سورية والعراق. والجدير بالذكر هنا أن مثل هذه الأخطاء، التي كانت بناءً على التوجّهات والاستراتيجيات الاستعمارية، ارتكبت في أفريقيا، وأماكن أخرى متعدّدة في آسيا، وغيرها. والاعتراف بالخطأ فضيلة، هذا إذا كان صادقاً مبنياً على مراجعات عقلية ضميرية، ولكنّه مع ذلك لا يغيّر من الأمر كثيراً ما لم يُقرَن بخطوات عملية تؤكّد أن الخطأ ذاته، أو شبيهه، لن يتكرّر مرّة أخرى، وبصيغة أخرى. وهنا تتحمّل مجتمعاتنا عبر قواها السياسية ونُخبها وتيّاراتها الشعبية مسؤولية الإسهام في تبلور مجتمعات وطنية حقيقية، لا تكون مجرّد تجمّع من الحارات الدينية والمذهبية، أو القومية أو الجهوية المناطقية، حارات متوجّسة من بعضها، تتكوّر على ذاتها، تمارس النفاق والتقيّة، وتتحيّن الفرصة للانتقام الذي تعتبره حقّها المشروع بناءً على سردية مظلوميتها التي تغدو مع الوقت جداراً عازلاً، يقطع الطريق أمام أيّ نفَس وطني انفتاحي، لا تستغني عنه الدول الطبيعية المتوازنة.
