"مدارس الريادة"... محاولات الإصلاح وتحديات الواقع في المغرب

23 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

تبرز مدارس الريادة بصفتها مشروعاً أطلقته وزارة التربية الوطنية بالمغرب، ضمن خريطة الطريق 2022- 2026، بهدف معالجة اختلالات التعليم وتطوير الكفايات التعليمية، لكن إلى أي حدٍ يمكن لهذا المشروع أن يُحدث تحوّلاً حقيقياً في المنظومة التعليمية؟ وما تقييم الخبراء لفعاليته وجدواه في معالجة الاختلالات القائمة؟
يصف الأستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء، سعيد العيماري، مدارس الريادة بأنها نموذج بيداغوجي يستند إلى رؤية إصلاحية متكاملة، تستحضر التلميذ والأستاذ، والمؤسسة التعليمية مرتكزاتٍ أساسيةً، ويوضح أن هذا النموذج جاء بمقاربات جديدة، أولاها المقاربة العلاجية، التي كانت تسمى سابقاً "طارل"، أو "التدريس وفق المستوى المناسب"، وباتت تُعرف اليوم بـ"برنامج دعم التعلم الأساس"، تَجاوزاً للشائعات التي أثيرت بشأن الاقتصار على دعم المتعثرين أو تكريس التمييز بين المتعلمين.
ويؤكد أنّ جوهر هذه المقاربة يتمثل في تحديد المستوى الحقيقي للمتعلّم، من خلال ما يسمى "رائز الموضعة" القائم في اللغة العربية مثلاً على خمس لبنات: الحرف، والكلمة، والنص القصير، والأقصوصة، وأسئلة الفهم؛ وبناء على تموضع المتعلّم ضمن هذه اللبنات، يُنجز دعم مركّز يمتد لثمانية أسابيع، تتخلّله مراحل للتقويم والمواكبة، بهدف الارتقاء بالمستوى التعلمي الحقيقي للتلميذ.

بعد هذه المرحلة ينتقل المشروع إلى المقاربة الوقائية أو ما يُعرف بـ"التعليم الصريح"، المعتمد على استراتيجيات بيداغوجية مدمجة، تستند إلى أسس علمية مستخلصة من دراسات أُنجزت في أميركا خلال التسعينيات، كما استعان المشروع بخبراء كنديين أشرفوا على التكوينات الإشهادية الخاصة بالمؤطّرين التربويين المعتمدين في المغرب، وذلك في أفق تحقيق تعليم فعّال يسهم في النهوض بمستوى التلاميذ.
ويضيف العيماري، أن 626 مؤسسةً تعليميةً استفادت من مشروع "مدارس الريادة" خلال الموسم الماضي، فيما أضافت الوزارة هذا الموسم ألفَي مؤسسة جديدة. ويُرتقب خلال الموسم المقبل أن يُعمَّم المشروع ليشمل ألفي مؤسسة إضافية، ما سيرفع العدد الإجمالي للمؤسسات الابتدائية المستهدفة إلى 4626 مؤسّسة، بينما ستكون المؤسّسات التي لن يشملها المشروع محدودة جداً، ما يسمح بالقول إنّ وزارة التربية الوطنية تسير نحو تعميم هذا النموذج البيداغوجي الجديد.
من جهته، يذهب الخبير التربوي ومدير المركز الأكاديمي للدراسات الثقافية والأبحاث التربوية، مصطفى شميعة، إلى اعتبار مدارس الريادة تحوّلاً استراتيجياً في مسار الإصلاح، على مستوى بناء الدرس وديداكتيك المواد، من خلال آليات تصنيف المتعلمين بناءً على نتائج روائز تشخيصية، وتقديم تعليمات مناسبة لمستوياتهم. 
ويضيف شميعة أن المشروع تجاوز مرحلة التجريب، وأصبح واقعاً ميدانياً بحكم انخراط آلاف الأساتذة والمفتشين فيه، ويؤكد أن توسيع نطاق المشروع ليشمل الإعدادي والثانوي يضعه على سكة إصلاح حقيقية، رغم ما يفرضه من تحديات لوجستيّة وبيداغوجية.
ورغم الإشادة الرسمية، فإنّ المشروع لم يسلم من الانتقادات، فقد عبّر بعض الفاعلين وفرق ومجموعات المعارضة البرلمانية بمجلس النواب، عن تخوّفهم من أن يتحول النموذج إلى تجربة معزولة عن المدرسة العمومية ككل، مبرزين غياب التعميم الشامل، وضعف في بلورة فلسفته، فضلاً عن التخوف من أن يؤدي التصنيف إلى ترسيخ الفوارق بين التلاميذ بدل تقليصها، كما انتقدت بعض الأصوات غياب إطار قانوني واضح يؤطر مدارس الريادة ضمن المنظومة الرسمية.
في هذا السياق يوضح الخبير مصطفى شميعة أن هذه الاعتراضات لا تنطبق على النموذج الديداكتيكي المعتمد، الذي يقوم على تصنيف المتعلمين حسب مستوياتهم الفعلية، وتقديم نماذج تدريسية تناسب قدراتهم ووتيرة استيعابهم، ويُشير إلى أن الطرائق التقليدية كانت تفترض ضمنياً أن جميع المتعلمين في مستوى واحد، ما يؤدي إلى إقصاءٍ غير مصرَّح به للمتعثرين منهم، بينما تعتمد "مدارس الريادة" على رؤية تصنيفية واقعية، تأخذ بعين الاعتبار الفوارق الإدراكية والذهنية بين المتعلمين، وتنطلق من روائز تشخيصية لتقديم تعلّمات مناسبة لكل فئة. وبالتالي، فإنّ تقسيم المتعلمين إلى مستويات لا يُعد تمييزاً سلبياً، بل إنّه مدخل بيداغوجي فعّال يُراعي التدرج في اكتساب التعلّمات، ويهدف إلى رفع المستوى الأدنى تدريجياً ليلتحق بالوسط، ثم بالأعلى، ما يُسهم في تقليص الفوارق بدل تكريسها.

من جهته يقرّ العيماري بأن هذا المشروع لا يخلو من صعوبات على مستوى التطبيق، رغم المؤشّرات المشجّعة التي كشفتها الدراسات التي أعدتها وزارة التربية الوطنية، التي أظهرت أن نسب التحصيل لدى التلاميذ المستفيدين من البرنامج في مواد اللغة العربية والفرنسية والرياضيات تجاوزت 70%. ويُعد ذلك، مؤشراً إيجابياً يعزّز التوجه نحو تعميم هذا النموذج البيداغوجي الجديد، غير أن تحقيق هذا الهدف يظل رهيناً بتجاوز عدد من الإشكالات البنيوية والتنظيمية التي تعرقل فعالية المشروع في الميدان.
ويرصد المتحدث نفسه أنّ من أبرز التحديات المطروحة، مسألة توفير البنيات التحتية والتجهيزات اللازمة داخل المؤسّسات التعليمية، ومحدودية تكوين الأساتذة من حيث المدة والمضمون، ونقص في المواكبة والتأطير اللازمَين لضمان تمكّنهم من تفعيل المقاربات الجديدة على نحوٍ فعّال داخل الصفِّ الدراسي. 
وفي السياق ذاته، يُنبه المصدر نفسه إلى ثغرة حقيقية في التكوين الأساسي للأساتذة، إذ لم يستهدف المشروع أحد أهم الحلقات المفصلية في المنظومة، وهم الأساتذة المكوِّنون بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين. ويوضح أن الوزارة ركّزت في التكوينات الإشهادية الخاصة بالمقاربة العلاجية والوقائية على المفتشين، بينما جرى تجاهل العنصر الأساسي الذي يُفترض أن يواكب تكوين الأستاذ قبل التحاقه بالفصول الدراسية، وهو الأستاذ المكوِّن الذي لم يُشرَك في التكوينات الإشهادية الخاصة بهذا النموذج، وهذا التغييب حال دون تمكين الطلبة الأساتذة من التكوينات الأساسيّة الضرورية لاستثمار التكوين البيداغوجي الخاص ببرنامج "دعم التعلّمات الأساسيّة" و"التعليم الصريح"، ما يُفضي إلى إرسال أساتذة جدد إلى المدارس الرائدة دون تأهيل حقيقي يتناسب مع متطلبات النموذج البيداغوجي الجديد.
هناك أيضاً إشكال بنيوي آخر يتعلق بالمنهاج الدراسي، إذ في الوقت الذي يسعى فيه المشروع الإصلاحي إلى تقديم تصور جديد للتدريس، يقول العيماري، فإنّ المنهاج الدراسي الذي صادقت عليه الوزارة في يوليو/تموز 2021 يطرح علامة استفهام كبيرة حول مدى حضور المنهاج المعتمد فعلياً داخل مدارس الريادة، ما يعني أن هذه المدارس تُدرس خارج المنهاج الرسمي، ما يقتضي إحداث مكتب دراسات مستقل يُعنى بتتبع وتقييم فاعليّة المشروع على أسس علمية وموضوعية.

بدوره يشير شميعة إلى ضرورة تحديث المناهج لتتماشى مع النموذج البيداغوجي الجديد، فضلاً عن مشاكل البنية التحتية في المناطق القروية، مثل الانقطاعات المتكرّرة للكهرباء، ما يُعطل استخدام الوسائل الرقمية في التدريس، كما يُبرز دور الإدارة التربوية بوصفها شريكاً فاعلاً في المشروع، ويشير إلى الحاجة الماسة إلى تكوين خاص للمديرين، يُمكنهم من تفعيل نموذج الريادة داخل مؤسساتهم، بعيداً عن الأدوار الإدارية التقليدية.
ويخلص شميعة إلى أن مدارس الريادة تمثل جوهر الإصلاح ولبّه، لكونها استطاعت أن تفتح باب الصفِّ الدراسي، وتدخل إلى عمق الممارسات الصّفية، فتُسائل مناهج التدريس، وتعيد طرح سؤال آليات التعليم ومناهجه على نحوٍ مباشر وعملي"، ويفيد أن هذا الإصلاح ينسجم عميقاً مع السياق البيداغوجي الراهن، في ظل التحوّلات المتسارعة التي يشهدها العالم، وفي مقدمتها الثورة الرقمية وتطورات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى أن العصر الرقمي فرض على المدرسة المغربية أن تعيد تموقعها، وتستوعب لحظتها التاريخية، من خلال تقديم هذا المشروع الريادي، الذي يهدف إلى تهيئة المدرسة لمواجهة التحديات المستقبلية.

Read Entire Article