ARTICLE AD BOX
تفيد تقديرات المنظمات الإنسانية العاملة في محافظة إدلب وريفها، أقصى الشمال السوري، بوجود نحو أربعة آلاف أسرة عراقية لاجئة منذ عام 2016، في تلك المناطق، يتركز أغلبهم في وأريحا وسرمين وسلقين وقرى غفير وأطمة وحارم ودير حسان وقاح، إلى جانب مركز مدينة إدلب، وقرى في شمال ريف إدلب، فضلاً عن أعزاز في ريف حلب وعدّة مخيمات رئيسة، أهمها مخيم إكده الذي لا يبعد سوى 700 متر عن الحاجز الحدودي السوري التركي، والكومنه، والدانة. وللعام السادس على التوالي، تتنصّل الحكومات العراقية المتعاقبة من أي التزام تجاه العراقيين في إدلب وريفها، ولم تشملهم ببرامج العودة الطوعية التي نظمتها أخيراً مع الأردن وتركيا ولبنان ومصر، إلى جانب الموجودين في مخيم الهول الواقع تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). ويظهر من إفادات لنساء ورجال عراقيين لاجئين في تلك المناطق، تحدثوا لـ"العربي الجديد"، أن حكومات بلادهم تتعامل مع أوضاعهم باعتبارها ملفّات أمنية، على اعتبار أن هؤلاء كانوا في مناطق سيطرة تنظيم داعش، ونزحوا منها إلى سورية، وبالتالي تمثل أوضاعهم ملفات أمنية، لكن الواقع يؤكد غير ذلك تماماً.
مأساة العراقيين في إدلب
يتحدر أغلب العراقيين الموجودين في ما كان يُعرف، حتى وقت قريب، بـ"الشمال السوري المحرّر"، من مدن الموصل وتلعفر والبعاج والقائم والرمادي والفلوجة وتكريت والحويجة وكركوك وبغداد والكرمة والخالدية، ومناطق عراقية أخرى في شمال البلاد وغربيها، ويشتركون جميعهم في أنهم من العراقيين السنّة، الذين وجدوا أنفسهم في زلزال اجتياح "داعش" العراق في منتصف عام 2014، وما تلاه من مآسٍ ما زالوا يواجهونها.
وأنجزت السلطة السورية الجديدة، أخيراً، نظاماً إحصائياً للعراقيين في إدلب، تضمّن منحهم أوراقاً تثبت هويتهم، وتثبيت عناوين وجودهم، والسماح لأطفالهم بالدخول إلى المدارس السورية للتعلّم، وهو إجراء يراه العراقيون النازحون في تلك المناطق مهمّاً لمعالجة جيلٍ من عراقيي إدلب مهدّد بأن يكون أُميّاً.
أنجزت السلطة السورية، أخيراً، نظاماً إحصائياً للعراقيين في إدلب، تضمّن منحهم أوراقاً تثبت هويتهم، والسماح لأطفالهم بالدخول إلى المدارس
ينقسم هؤلاء العراقيون في إدلب وريفها إلى عدّة أقسام، الأول، وهم الأغلبية، يشمل العراقيين الذين كانوا يسكنون في محافظات الأنبار ونينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، واختاروا التوجّه إلى تركيا عبر الأراضي السورية، وهو إجراء كان معتمداً بين عامي 2015 و2016، إذ يُفضّل العراقيون العبور إلى تركيا من داخل سورية التي مسح "داعش" حدودها مع العراق ثلاث سنوات متتالية.
كان هذا الخيار اضطرارياً بسبب تكرار جرائم التغييب الجماعي والخطف على الهوية في العراق الذي تعرّضت له عوائل نازحة على يد المليشيات الشيعية المسلحة، وتحوّلت حينها مناطق الرزازة وبزيبز والصقلاوية وحمام العليل والكيلو 160 والسجارية والبو عكاش وبادوش والحويجة ويثرب وسليمان بيك إلى بقع خطف وتغييب على الهوية للنازحين العراقيين بدوافع طائفية ما زالت التقديرات تتحدّث عن أرقام تفوق 40 ألف مغيّب بتلك الفترة. لكن جاء قرار السلطات التركية الذي فاجأهم قبل نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، حين شن الجيش التركي هجوماً على معاقل "داعش" في منطقة الباب السورية، فأغلق الحدود مع سورية ومنع العراقيين القادمين عبر سورية من الدخول. يُقدّر عدد تلك العائلات بنحو 1500 عائلة جرى منعها من الدخول، ومعها عدة عوائل من فلسطينيي العراق اختارت الطريق نفسه، ووجد أفرادها أنفسهم في مصير مشابه أيضاً.
القسم الثاني، هم عراقيو ما بعد الغزو الأميركي لبلدهم عام 2003، ووجدوا أنفسهم في أتون الثورة السورية متنقلين بين مدينة وأخرى، حتى وصل الحال بهم إلى إدلب. بينما هناك قسم آخر، وهو الأقل، لا يخفي أصحابه انتماء أفراد من أسرهم لتنظيم داعش، وخشيتهم من العودة إلى العراق بسبب أعمال انتقامية قد تواجههم من أبناء قبائلهم أو مدنهم نفسها، لكنهم في الوقت نفسه يؤكدون أنهم غير مسؤولين عن تصرفات أبنائهم وأن القانون لا يأخذ أحداً بجريرة آخر. وتحدّثت عائلة من داخل مخيم إكده عن حالات إجبار نفذها "داعش"، بعد انكساره في المدن، وهو نقل العوائل مع أرتاله قسراً، مستخدماً إياهم دروعاً بشرية.
في المحصلة، تتفاوت مستويات العراقيين في إدلب وحالاتهم المعيشية بين من يعيش في خيمة أو في شقة سكنية أو هيكل لبناء غير متكمل، وتاريخهم بين موظف ومتقاعد وعسكري وغيرها. وهناك طبيبة أسنان، ومشرفة تربوية، وصحافي، وأستاذ سابق في كلية العلوم بجامعة بغداد، كلهم جمعهم قدر القرار الخاطئ في الوقت الخاطئ، فاللجوء إلى منطقة يعاني سكانها الأصليون من النزوح، ويعيش كثيرون منهم في الخيام فاقم معاناة العراقيين هناك، إذ تتركّز أنشطة أغلب المنظمات الأممية والإنسانية الدولية في المساعدة لصالح السوريين النازحين. وبالتالي لا يتم الانتباه لوجود شريحة عراقيين نازحين في تكتّلات شبه مستقلة.
مخاوف من العودة
وبرزت في السنوات الأخيرة عدّة منظمات من المجتمع العراقي نفسه، هدفها المساعدة، أبرزها منظمتا الرافدين ودجلة، أقامها عراقيون من اللاجئين أنفسهم، لمساعدة بعضهم بعضاً، لكن ما تلا الزلزال المدمّر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية في فبراير/ شباط 2023، وما ألقى من خراب ودمار على السوريين، غطى على القلة العراقية هناك، وبالتالي، تراجعت كل مستويات الإغاثة المقدّمة لهم.
يقيم الخمسيني علي الجميلي، وهو من أهالي مدينة الكرمة، شرقي الأنبار، في شقة ببلدة أريحا في إدلب، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن الإيجار الشهري يبلغ ما يعادل 40 دولاراً، بينما يعمل ابنه في البناء ويتقاضى يومياً مائة ليرة تركية (نحو 2.56 دولار)، وهي العملة المعتمدة في تلك المناطق حالياً. يشرح قصة وصوله إلى أقصى زاوية من الشمال السوري بأنه خشي من العبور إلى بغداد عبر طريق إبراهيم بن علي، وقرّر أخذ عائلته والتوجّه إلى أقصى الأنبار، ومن هناك العبور إلى البوكمال السورية. ويوضح أنه وصل إلى إدلب من البوكمال، ومن إدلب سعى للدخول إلى تركيا بجوازات سفر عراقية رسمية، لكن السلطات التركية أغلقت الحدود في تلك الأيام. يعيل الجميلي ثمانية أشخاص، ويمنعه مرضه من العمل، ولهذا يتولى ابنه مهمّة الإعالة. يعيشون بالكفاف حسب ما يدخل لهم يومياً، وينتظرون أي لجنة حكومية للتدقيق وإنصافهم للعودة إلى وطنهم، لكنهم، في الوقت نفسه، يخافون من إجراءات سابقة تعرّض لها عراقيون كانوا في إدلب، وجرى اعتقالهم فور دخولهم العراق، بمن فيهم النساء، وإخضاعهم للتحقيق. ويثني الجميلي على المجتمع السوري الحاضن لهم، ويقول إنه لا يشعر بأي تمييز في هذا السياق، والسوريون يعاملونهم بشكل طيب.
خوف من تكرار إجراءات سابقة تعرّض لها عراقيون كانوا في إدلب، وجرى اعتقالهم فور دخولهم العراق
أدّى قرار أسرة عراقية العودة عبر استخراج وثائق لها من القنصلية العراقية في مدينة غازي عنتاب التركية إلى مخاوف كبيرة بين الأسر العراقية، دفع كثيرين منهم إلى إلغاء فكرة العودة من دون ضمانات. فعودة هذا الرجل الستيني مع زوجته إلى العراق انتهت باعتقالهما بدعوى تورّط ابنهما الذي قُتل بغارة للتحالف الدولي عام 2017 استهدفت موقعاً لمسلحي "داعش". هذه المخاوف أدت إلى توقف محاولات العراقيين المجازفة بالعودة، وهم، في المجمل، ينتظرون لجاناً حكومية عراقية تأتي للاستماع إليهم وفحصهم أمنياً، وفرز ملفاتهم.
يقول عمر الطائي، وهو من أهالي كركوك ويعيش في مخيّم صغير بمنطقة الزيزفون بريف حلب الشمالي، لـ"العربي الجديد"، إنهم يُعاقَبون طائفياً، "والحكومة قرّرت اعتبار جميع من في إدلب إرهابيين بدون حتى أن تبذل أي جهد لمعرفة من هي العائلات الموجودة وكيف وصلت". ويصف السياسة الحكومية تجاههم بأنها "مبنية على أحكام مسبقة عندما تم وسم أهالي المدن التي احتلها داعش بالإرهاب".
محمد نور رشيد، من مواليد 1962، وكان عقيداً سابقاً في الجيش العراقي، وكان يسكن في مدينة تلعفر بمحافظة نينوى ذات الغالبية التركمانية. نزح من بلاده عام 2004، وعاش في دمشق وحلب، قبل أن يجد نفسه في بلدة سلقين بإدلب. فَقَد اثنين من أولاده، ويعيل اليوم تسعة أفراد بمن فيهم أحفاده الأيتام. يقول إن التهم الكيدية وغير الحقيقية تواجه غالبية الموجودين في مخيم إكده الذي تسكن فيه 225 أسرة عراقية فيها 135 يتيماً و65 أرملة. وتنتشر في المخيم الأمراض، وسوء التغذية واضحة على وجوه الناس، بينما يعيش الأهالي فيه واقعاً يظهر أنهم اعتادوا عليه، فلم يعودوا يتحدثون بشأنه، وهو استغلال العمالة، إذ تخرج النساء والأطفال للعمل عدة ساعات في قطف الزيتون أو رعاية الأراضي مقابل ثمانين ليرة تركية في اليوم (نحو دولارين) في ظروف عمل سيئة للغاية.
لم تصل إلى هذا المخيم أي رعايةٍ طبيةٍ منذ أشهر، وتكوّنت مقبرة في قرية كفرغان القريبة من المخيم، يَدفن فيها الناس موتاهم. وما زالت منظمة أفاد التركية تجلب الخبز لهم، بواقع رغيفين ونصف الرغيف لكل فرد، لكنه يصل متأخراً بيوم أو اثنين، مع رائحة كريهة، أو يصل يابساً لا يمكن أكله إلا بعد نقعه بالماء، بينما يشتري الناس براميل الماء المستخرج من الآبار بمبلغ 15 ليرة تركية.
تُقسم أم محمد (65 عاماً)، التي فقدت زوجها وابنها وتعيل أحفاداً لها أيضاً أنها لم تذق طعم اللحم أو الدجاج منذ ما قبل شهر رمضان الماضي (في مارس/ آذار الماضي)، عندما تبرّع متصدق بكيس صغير فيه بضع قطع لحم لهم. كانت تسكن في حي السلام في الموصل، وخرجت مع أسر أخرى إلى الأراضي السورية، فيما يدفعها الخوف من التوجّه إلى الاتجاه المعاكس الذي كانت تسيطر عليه الشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب ومليشيا "كتائب حزب الله".
أمراض وغياب المساعدات
تفتك الأمراض بالعراقيين، ويبلغ معدّل الوفيات بينهم ثلاثة أشخاص كل أسبوع، بينما قضى كثيرون منهم في الزلزال، وفقا لشهادات حصلت عليها "العربي الجديد". والاعتقاد السائد عند قسم من المنظمّات أن هؤلاء العراقيين في إدلب تأتيهم دولارات من أقاربهم، وهو ما حرمهم من أي برنامج مساعدة يستهدفهم، وفقاً للناشط في مجال الإغاثة وائل جابر، من مدينة إدلب، الذي يؤكّد لـ"العربي الجديد" أن هناك اعتقاداً بأن العراقيين غير محتاجين للمساعدة، لكن وضعهم مأساوي. ويضيف جابر أن "حكومة بلادهم يمكنها أن تحل مأساتهم، بنقل الأطفال والنساء على أقل تقدير، إلى بلادهم ومنازلهم، وتتولى تدقيق أسماء الرجال منهم، رغم أن الغالبية هم من النساء والأطفال". ويعتبر أن "وضعهم ساء بعد التحرير (سقوط نظام بشّار الأسد)، بسبب تراجع حملات الإغاثة التي كانت تصل إلى الشمال السوري".
عملياً، تتصدّر منظمات خيرية، قطرية وكويتية، العمل الإغاثي في تلك المناطق. وفي حالة مدينة مثل إدلب، يشمل الحديث عن اللاجئين في المجمل مئات آلاف من السوريين، ويكون رقم أربعة آلاف عائلة عراقية هامشياً في هذا الملف.
رياض محمد: المهجرون العراقيون يعانون واقعاً مأساوياً غير مسبوق يستدعي إغاثتهم طبياً وغذائياً
يقول رياض سليمان محمد، وهو المدير السابق لمنظمة الرافدين التي تنشط في إدلب، لـ"العربي الجديد"، إن المُهجّرين العراقيين في إدلب وأطمة، والدانا، وسرمدا، والكمونة، وحارم، وسلقين، ومناطق ريف العاص، ودركوش وما حولها، وأريحا، وأعزاز، يعانون واقعاً مأساوياً غير مسبوق يستدعي إغاثتهم طبياً وغذائياً في أسرع وقت ممكن. ويضيف: "هؤلاء أغلبهم أرامل وأيتام يفتقدون أبسط مقوّمات الحياة، خصوصاً بعد اهتراء الخيام التي لديهم"، موجّهاً دعوته إلى المنظمات الدولية وغيرها لمساعدتهم، خصوصاً في مسألة التكفل بعلاج وتعليم الأطفال الأيتام.
محمد السلماني (19 عاماً)، عراقي لاجئ دخل إدلب في عمر 11 عاماً، وتوفي والده بسبب المرض، ويعيل والدته وشقيقاته، يصف حالهم بـ"المعدوم". ويقول لـ"العربي الجديد": "فكرت بالانتحار مرّات عدة للتخلص من هذا الواقع، لكن أمي وأخواتي يمنعنني، ولا أدري كم سأصبر... أتمنى أن يحل مساء علينا ونحن تحت سقف وليس قماش خيمة ممزقة، وأن تنام سهام (أخته) وقد شبعت، لكن ليس من العجين، بل من اللحم".