ARTICLE AD BOX
يقود الحوار مع المخرج السوري محمد ملص دائماً إلى مناطق حائرة، تتأرجح بين السينما والأدب، بين صورة الحياة بكل فجاجتها ووضوحها وصراحتها، وبين عمق الأشياء المخفية التي تختبئ تحتها. في هذا الحوار الذي جرى في شوارع دمشق يتحدث ملص عن أثر دمشق به وبسينماه كما يتحدّث الابن عن أمه والأب عن ابنته.
فيما نمشي في دمشق هل ترى أحلام مدينةٍ أم ترى ليلاً؟
أرى بؤس المدينة، وبؤسها اليوم مختلف عن البؤس القديم الذي أعرفه. يومياتي منذ ستين عاماً تتضمن تفقّد المدينة، عبر السير فيها، ودائماً كان هناك بؤس، وكان هناك قلق، لكن المختلف الآن أن حلماً قد ولد حقاً، وانضاف الخوف على هذا الحلم إلى الخوف القديم على المدينة. وسأعترف بأنني أشعر بقلق شديد حين أرصد هذه اليوميات وهذه الرؤى للواقع والشارع، وأستنتج أين تمضي هذه المدينة، وإلى أين يتجه هذا البلد الذي ننتمي إليه.
لنعُد لفكرة التقاط الحلم، حين بدأت بكتابة "أحلام المدينة" هل كنت ترى حقاً أن هذه البلاد تحلم؟
نعم. كنت أنطلق من أحلامي، وأنا لا أحلم أحلاماً شخصية، إنما أحلاماً تنتمي إلى واقع عايشته. منذ ذلك الوقت، أي عام 1974، وأنا أحاول أن أحسّ بواقع الحياة، أرصد إلى أقصى ما أستطيع من تعابير تقولها الحياة عن نفسها، وقرّرتُ أن مهمّتي هي تحقيق تعابير الحياة في المدينة عن نفسها سينمائياً، بأعلى درجةٍ من الأمانة. كنت أحاول أن أعرف المدينة من خلال تشرّب واقعها، وتسريبه إلى روحي، والتماهي معه.
بعد حوالي سبع سنوات من عودتي من الدراسة، وصلت إلى قرار، واخترتُ لنفسي مهمّة البحث عن المفقود بهذه الحياة، في ذلك الوقت قبل خمسين عاماً، بدا واضحاً لدي أن المفقود هو الزمن والإحساس بزمن معين. فاخترت الخمسينيات لتكون موضوعي، بما فيها من أجواء ديمقراطية، اخترت أن أعبر عن المفقود في الخمسينيات عبر فيلم أحلام المدينة، ونظراً إلى الاستقبال الذي لقيه هذا الفيلم سواء في سورية أو خارجها، شعرتُ بامتنان كبير لاختيار هذا الخط. ونبّهني نجاح التجربة إلى أهميته وأساسيته، فوضعتُ لنفسي مخطط حياتي كاملاً على صعيد السينما ألا وهو التعبير عن المفقود.
منذ أنجزت دراستي في السينما، كنت أنتمي، سواء على الصعيد الشخصي أو على الصعيد السينمائي، إلى مدرسة البطء والتأمل
بعد "أحلام المدينة" اخترت فيلماً عن مسقط رأسي القنيطرة التي احتلت في حرب حزيران 1967، وأعيدت لنا مدمّرة عقب خروج الإسرائيليين منها عام 1973، فقرّرت أن أحقّق فيلماً عن المكان المفقود، وكانت نتيجة ذلك فيلم "الليل"، وأيضاً بعد ما حققه اكتشفت أن عليَّ السير في هذا الطريق، فقرّرت حينها (عام 1988)، أن أكمل ثلاثية المفقود، وأختمها بفيلم عن افتقاد الذات، فكتبت سيناريو فيلم "سينما الدنيا"، الذي ما زال سيناريو نتيجة وضع السينما في سورية آنذاك، واحتكارها في مؤسسة واحدة عائدة للدولة.
سيناريو "سينما الدنيا" عن المفقود الأكبر، وهو الذات الشخصية للإنسان، ما يجب أن تكون عليه الذات من وعي وتفكير وآمال وأحلام. هذا السيناريو رُفض مرات عديدة، ولم يتحقق. وبقيت ثلاثيتي ناقصة. ما دفعني في ما بعد إلى نشر سيناريوهات "أحلام المدينة" و"الليل" و"سينما الدنيا" كتابياً. بالتالي أصبح لدي مفقود جديد هو الفيلم. فعوضت عنه بالكتاب، الذي أتاح لي تحقيق أحلامي السينمائية جزئياً، وفي ما بعد، حين واجهت صعوبات في تحقيق مشروعي السينمائي، صرت أشتغل بما يتاح في ظل مناخ رقابي شديد على السينما، وعدم القدرة على تحقيق أشياء يجب أن أفعلها وأريدها.
أنت تشبه بلادك، تفعل أشياءك على مهل، وتعطيها الوقت الذي تريد، هل تشعر باضطرابٍ ما وأنت ترى بلادك مستعجلة؟
منذ أنجزت دراستي في السينما، كنت أنتمي، سواء على الصعيد الشخصي أو على الصعيد السينمائي، إلى مدرسة البطء والتأمل، فالسينما ليست لهاثاً، وفيلماً وراء الآخر. قرّرت أن أتخذ لنفسي طريقاً هادئاً، أتأمّل ما أريد تحقيقه، وأعطي دراسته الوقت الكافي حتى لو كلفني ذلك سنوات، وهذا ما فعلتُه دائماً. كل فيلم كنت أعطي له ظروف إعداده باعتباره نصاً أدبياً أولاً، لم ألهث وراء تحقيق أفلام متتالية كثيرة. رؤيتي للسينما تتطلب أساساً التمهّل والعمل بدقة شديدة على صعيد الفكرة، الضوء، اللون، ومعالجة المشاهد كل بذاته، كي يستطيع أن ينقل الإحساس الذي أريده، ولو مر زمن طويل لم يكن هذا ليدفعني لتغيير أسلوبي، فقرّرت الذهاب إلى مشاريع أخرى، والتصالح مع فكرة أن سلسلتي ظلّت ناقصة، فاكتفيتُ بما حقّقته، بانتظار أن يتغيّر الزمان وتتغيّر الظروف، وأحقق مشروعي القديم، وخاصة أن الطريقة التي استقبل بها الفيلمان الأولان من الثلاثية كانت مرضية.
إذاً يبقى فيلم "سينما الدنيا" في نفسك، رغم كل ما أنجزت بعده، لو أتيح لك إنجازه الآن، هل سيتغيّر كثيراً؟
ما زال هذا الفيلم يراودني، ويلحّ عليّ، ويرافقني حلم تحقيقه. أما عن التغيير فأستطيع القول اليوم إن هذا البلد ازداد إرهاقاً، وإن الحياة الاجتماعية والوعي فيه قد ازدادا بؤساً. وأصبح الإنسان أكثر ضياعاً وتيهاً، وأصبحتُ أشعر بالخطر على هذه البلاد التي أحبها وأنتمي إليها. سأقول بوضوح إنني خائف على سورية أن تنتهي بلداً، فهي لم تعد قادرة على الصمود أكثر. وهي تتداعى كما يتداعى الإنسان، ولا أعرف ما هو مستقبلها ومستقبل شعبها، هل ستبقى دولة واحدة؟ لا أعرف، ولو أتيح لي تحقيق فيلم "سينما الدنيا" فأظن أن كل هذه الأسئلة، وهذه المشاعر القلقة، ستتسرب إليه.
أنت رجل متأنٍ تنتمي لبلاد متأنيّة، الآن ألا ترى أن التاريخ يسير عليها بطريقة مستعجلة، وأن هذا يشكل خطراً عليها؟
أعتقد أن من يملك مستقبل سورية ليس السوريين. أنا من جيل عاش عصر الصراع بين قوتين، الغربية والاشتراكية، وكنّا نرى العالم من هذا المنظور، لكن ذاك العصر انتهى، والعصر الجديد لا يمكن رفضه، خاصة أنه جاء وجلب معه تبدلات كبيرة على الصعيد التقني وعلى الصعيدين الاجتماعي والإنساني، وعلى صعيد العلاقات بين الدول. إلى أن وصلنا إلى انتقال الصراعات من مستوى البلدان إلى مستوى المناطق والأحياء والقرى، فأصبحت الصراعات كلها حروباً محلية تعمل بالوكالة، وتخدم مصالح القوى الكبرى. وسورية ليست بعيدة عن هذا المفهوم، وهي جزء من العالم، واستعجالها الذي يظهر الآن جزء من عجلة العالم الجديد.
خائف على سورية أن تنتهي بلداً، فهي لم تعد قادرة على الصمود أكثر. وهي تتداعى كما يتداعى الإنسان، ولا أعرف ما هو مستقبلها ومستقبل شعبها
طوال سنوات الديكتاتورية في سورية، كنت تعمل في مهنة نقيضة للديكتاتورية بطبعها، متى تعتقد أنه يمكن أن يسقط الديكتاتور من عقلك وعقل السينما والأدب؟
طوال السنوات التي قضيتها في ظل نظام قمعي، كنتُ أفرّق كثيراً بيني شخصياً وبين رؤيتي السينمائية، بين رؤية الواقع ومهمّة السينما والثقافة. وكنت مؤمناً بعمق بدور الثقافة في مقاومة الديكتاتورية، وهذا ما حاولتُ تحقيقه فعلياً بالسينما وبالثقافة. وهذه الرؤية الثقافية هي المهمّة الأساسية التي كانت تعطيني القدرة على صياغة مشروعات خاصة بالحياة التي يعيشها هذا البلد، ولكن برؤية ثقافية ذات دلالات سياسية أكثر منها مواقف سياسية. طوال هذه الفترة الطويلة، كنت أراقب وأسجل ذكريات يومية عن حال البلد بالمعنى الاجتماعي والإنساني، وأحاول إدراك رؤية المجتمع لنفسه بدقة. حين اقترحت مشروع "سينما الدنيا" تتويجاً للثلاثية أمام المؤسسة العامة للسينما، لم يتوقف الأمر على رفض المشروع، بل تجاوز ذلك لقرار بمنعي من العمل، بل وفي مرّات كثيرة منعي من الظهور الإعلامي، أو عرض أعمالي جماهيرياً.
بعدما يئست من إمكانية تحقيق مشروعي في مؤسّسات بلدي، توفّرت لي فرص إنتاج بمنح وشراكات من الدول الغربية والشرقية، فحقّقت أفلاماً خاصة بالنسبة لي، منها أفلام وثائقية خاصة، كفيلم "حلب مقامات المسرة"، ومنها أفلام روائية مثل "باب المقام" أو "شغف" الذي هو إنتاج فرنسي بالكامل، واخترت مدينة حلب مكاناً عن حدث واقعي حصل فيها، وهو أن تقتل امرأة لأنها تحب الغناء. حب الغناء الأصيل في المدينة جعل أسرة المرأة تشك بها، وبما وراء حبها للغناء، فتشتبه بأنها على علاقة غرامية بأحد ما، فتقتلها. أخذت الخبر كما نشر في الصحيفة، وكتبت من خلاله سيناريو روائي عنه وعن قسوة بلد تقتل فيه النساء من أجل أغنية، وأين؟ في مدينة كانت في كل تاريخها تفتخر بعمق علاقتها بالموسيقى.
هل عوّضتك هذه الأفلام عن عدم اكتمال مشروع الثلاثية الذي هو أنت؟
كانت هذه الأفلام، بدرجة أو بأخرى، تنتمي إلى التوجّه نفسه، وتتابع الطريق الذي أخذته، وتحقق الأفكار التي أريد. أعاقني المنع الذي واجهته في سورية عن تحقيق كل الأفلام التي أريد، ومسيرتي السينمائية تأثرت، فبدلاً من أن أحقق فيلماً كل خمس سنوات صار متاحاً لي أن أحقّق فيلماً كل عشر سنوات، إلى أن وصلت إلى هذا العمر الذي أنا فيه. وإذا سألتُ نفسي اليوم إن كنتُ راضياً عن عدد الأفلام التي أنجزتها، فأقول إنها قليلة إذا ما قارنتُها بعدد كبير من السينمائيين العرب عموماً والمصريين خصوصاً، لكنني راضٍ، لأن المحصلة هي تأكيد وإصرار على الخط الذي اخترته، وقد أنجزتُ فيه أقصى ما أتاحته لي الظروف.
لدي الآن في مفكراتي وفي دفاتر يومياتي أربعة سيناريوهات مختلفة ومتنوعة عن أفلام لم أستطع تحقيقها
طوال تجربتك السينمائية والكتابية كنت تحك في قشرة التكاذب التي غلّفت حياتنا عقوداً، إذا كانت أظافرك ما زالت تعمل ماذا ترى تحت طبقة اللايقين التي تغلفنا الآن؟
بعدما منعت من تحقيق الأفلام التي أرغب، لجأت إلى الكتابة، ولدي الآن في مفكراتي وفي دفاتر يومياتي أربعة سيناريوهات مختلفة ومتنوعة عن أفلام لم أستطع تحقيقها.
أشعر اليوم وكأني أبدأ من جديد، في الكتابة، وفي المراقبة، وفي محاولة قراءة الواقع، ونظراً إلى درجة القلق والترقب الراهن، ومن التغيرات الكبيرة التي تمر بالبلد، ومن الشعور بتقدّم العمر، وتراجع وضعي الصحي، لم يعد لدي الإلحاح الداخلي الذي لم يكن يفارقني أبداً، ويصرخ بي: عليك اليوم تحقيق فيلم جديد.
في السنة الماضية، طلبت مني مجلة سينمائية متخصصة سيناريو لفيلم لم أحقّقه أرسلت إليهم السيناريو الذي أريد أن أحقّقه وهو بعنوان "ليت للبرّاق عيناً"، وهو فيلم لا يحكي عن أسمهان التي أحبّها كثيراً، لكني أخذت منها اسم الأغنية لأحقّق فيلماً عن السجن ومصائبه في عصر الأسد.
هل لهذا الفيلم علاقة بما تحت المشهد الحالي؟
أطمح أن أمتلك القوة والقدرة لإنجاز فيلم "ليت للبُراق عيناً" لأن فيه رؤية لواقعنا الحالي بوصفها حلقة متصلة مع الماضي، وأعترف أن لدي برود روحي تجاه ثلاثة سيناريوهات أخرى موجودة، ويبقى العامل الأساسي هو توفر فرصة وجود جهة إنتاج راغبة بتحمّل مشروعٍ كهذا. وكان الإنتاج دائماً القطعة الناقصة من الحياة السينمائية في بلدنا، ليس فقط بعملية إنتاج الفيلم، وإنما بتوفير عرضه على نطاق جماهيري.
آخر ما حققته كان فيلماً وثائقياً عن الفنان يوسف عبدلكي، ومضت أكثر من سنتين على إنجازه، ولم يعرض بعد. طبعاً، يجب أن يعرض الفيلم الوثائقي على التلفزيون، ولا يوجد أي تلفزيون عربي مهتم بعرض نتاجات من هذا النوع، وهذا أيضاً مرتبط بالمرحلة التي نمر بها في المنطقة، والثقافة المرتبطة بهذه المرحلة. ولستُ متأكداً من أن المناخ العام اليوم مستعد لقبول أفلام سينمائية تحفر بما تحت قشور الأشياء.
نمرّ بمرحلة تحولات كبرى على المستوى الوطني، كم من الوقت تحتاج السينما وتحتاج أنت شخصياً لتكون قادراً على قراءتها بعين سينمائية؟
ليخرج منها مشروع سينمائي ستحتاج ما لا يقل عن سنتين، وربما توفر شرط إنتاجي جديد قد يقصّر هذه المدّة، لأن جدّية المشروع تولد عادةً حرارة داخلية عالية في المبدع نفسه. شخصياً أعمل على مراحل، وحرارة الجدية تحفّزني، وتسرّع المراحل، وحين أصل إلى كتابة السيناريو الأدبي وليس الإنتاجي يكون الفيلم قد صار في ذهني مقسماً ومرسوماً كادراً فكادر، ولقطة فلقطة، ومشهداً فمشهد.
ماذا تعني لك هذه الكلمات: سورية؟
قلبي النابض، أو نبض قلبي، ولذلك أرى لها ما أراه لنفسي: أخشى أن نبض قلبها بدأ بالخفوت.
دمشق؟
الحبيبة التي قضيت عمري فيها ولها، والتي ساعدتني على فهم السينما، مثلما ساعدتني السينما على فهمها، وأنا ممتنٌّ لعملي في السينما ليس لأنه ساعدني على فهمها، بل وعلى حبها.
القنيطرة؟
مسقط الرأس، ذكريات طفولتي، وكل ما هو عذب في حياتي. ولو كان باستطاعتي أن أختار، فأختار أن يكون قبري فيها. ولكن للأسف هذا غير متاح، لذلك ستكون دمشق خيار قبري البديل.
السينما؟
الروح، ومعنى الروح، وأخون هذه الروح بأن أسمح لنفسي بتعويضها بكتاب حين لا تتمثل في شريط، ولو كان هذا الكتاب رواية لنفسي.
محمد ملص؟
صديق جيد لي، يكسر وحدتي، ويعاملني بطيبة، نادراً ما يقرّعني أو يؤنّبني، وفي كل ما فعلت كان بجانبي يحفزّني ويدفعني.
بم أنت فخور؟
أنجزت أفلاماً تشبهني، وكتبت كتباً تعبّر عن فكري.
وعلى ما أنت نادم؟
لم أنجز كل الأفلام التي أردت تحقيقها.
بطاقة:
ـ من أبرز الأسماء في الحركة السينمائية العربية. ولد في القنيطرة عام 1945.
ـ عمل مدرّساً في دمشق بين عامي 1965 و1968 ثم ذهب لدراسة السينما في موسكو.
ـ أخرج عدداً كبيراً من الأفلام الروائية والوثائقية، منها:
حلم مدينة صغيرة (1970) القنيطرة 74 (1974) أحلام المدينة (1984) المنام (1987) الليل (1992) مقامات المسرة 1997 باب المقام (2005) سلم إلى دمشق (2013) أنا يوسف يا أبي 2023
ـ حاز جوائز كثيرة في عدة مهرجانات، مثل: قرطاج، بيروت، دمشق، مهرجان الشاشة العربية المستقلة والفيلم العربي في برلين وغيرها.
