مثقفون مصريون ينتفضون ضد انهاء الهيئة الجماهيرية الثقافية

6 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">تجمع امام قصر ثقافة شبين الكوم المعرض للإغلاق (سوشيل ميديا)</p>

يشكل إرث المرحلة الناصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عبئاً على كثير من المؤسسات المصرية، خصوصاً الهيئات الثقافية الرسمية النمطية المتكلسة، الغارقة في الروتين الوظيفي والفساد الإداري والشعارات الخطابية. ويضاف إلى تلك المشكلات تخلف هذه الكيانات عن ملاحقة التغيرات والمستجدات التي يشهدها العالم يوماً بعد يوم في الأفكار والرؤى والإبداعات والفنون ونظم الإدارة وغيرها، والثورة التقنية والمعلوماتية والاتصالاتية والرقمية، مما يفقدها تماماً دورها في التفاعل مع جمهورها المستهدف، على رغم كثرة الفعاليات الجوفاء المتكررة التي تنظمها من مؤتمرات ومهرجانات ومسابقات وغيرها.

ولقد كانت الهيئة العامة لقصور الثقافة وليدة استراتيجيات تلك المرحلة بكل أذرعها التخطيطية والتوجيهية والدعائية للهيمنة والسيطرة على النخب الثقافية والأيديولوجية والجماهير في آنٍ. فهذه الهيئة الحكومية التابعة لوزارة الثقافة منوطة بتحقيق سياسات الوزارة، التي اقترن اسمها أيضاً بالإرشاد القومي في ولاية ثروت عكاشة الأولى للوزارة عام 1958.

وتحمل هيئة قصور الثقافة، صراحةً، على رأس قائمة أهدافها "توجيه الوعي القومي للجماهير في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية والتشكيلية ونشاط الطفل وخدمات المكتبات وغيرها". وقد بدأ نشاطها عام 1945 باسم "الجامعة الشعبية"، وصار اسمها "جهاز الثقافة الجماهيرية" في منتصف الستينيات إلى أن صارت عام 1989 هيئة عامة ذات طبيعة خاصة باسم "الهيئة العامة لقصور الثقافة".

وإلى يومنا هذا لا يزال هناك قرابة 600 قصر ثقافة في مصر تقوم بأنشطة لا حصر لها على مستوى الكم، ويعمل فيها مئات الموظفين. على أنها، على مستوى الكيف، لا تمتلك القدرة على اجتذاب الأجيال الجديدة من الشباب والناشئة ورعاية الموهوبين، ولا تضطلع بمسؤوليتها الفنية النوعية برفع المستوى الثقافي والجمالي للمواطنين، كما أنها لا يمكنها أن تنهض برسائلها التلقينية القديمة ذات الصبغة الاشتراكية باستمالة المثقفين وضمان التزامهم وولائهم، واستقطاب الجماهير، وما نحو ذلك.

تبريرات وردود فعل

وسط هذه الظروف جاء القرار المثير للجدل منذ أيام قليلة في شأن إخلاء قرابة 120 موقعاً ومقراً من بيوت الثقافة ومكتباتها المستأجرة في مختلف المحافظات، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بإعادة توزيع العاملين فيها بعد تسليم المواقع إلى ملاكها. وعقب صدور القرار، توالت البيانات والتصريحات التوضيحية من الفنان التشكيلي أحمد هنو وزير الثقافة المصري، واللواء خالد اللبان الذي تولى رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة في فبراير الماضي، كما توالت أيضاً ردود الفعل الغاضبة من مجموعة من المثقفين والفنانين والمبدعين، إضافة إلى برلمانيين ومحامين.

من جانب الوزارة والهيئة، فإن هذا الإخلاء يقتصر على المواقع التي لا تقدم خدمة ثقافية حقيقية وفق مراجعة شاملة لأوضاع قصور الثقافة وتقييم كل موقع على حدة. كما أن التخلي عن هذه البيوت المستأجرة ذات المساحات الصغيرة التي لا تتجاوز أحياناً 25 متراً مربعاً، سيعقبه البحث عن بدائل مطورة ومناسبة في مواقع قريبة، بمساحات مناسبة، لتكون "أكثر قدرة على أداء المهام التثقيفية والتنويرية على النحو الأمثل، بما يحقق مبادئ العدالة الثقافية، ويوسع دائرة الانتفاع بالخدمة الثقافية، لا سيما خدمات المكتبة المتنقلة والمسرح المتجول".

على الجانب الآخر، فإن فريق المعترضين على القرار يرونه تحايلاً من جانب المؤسسة الرسمية، بغية تصفية نشاطات الهيئة، وتقليص أنشطتها، والسيطرة تدريجاً على مقارها، والتخفيف من أعبائها المالية، والهرب من مسؤولية مواجهة فسادها ومشكلاتها المتجذرة القائمة بدلاً من العمل على حلها وإصلاحها وتطويرها بخطط جادة مبتكرة تلائم العصر.

وفي هذا الاستطلاع تتقصى "اندبندنت عربية" آراء مختلفة حول هذه الأزمة المتصاعدة بين وزارة الثقافة المصرية والمثقفين في شأن مصير الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهي الأزمة التي ترجمت أيضاً إلى دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، وطلبات إحاطة بمجلس النواب المصري، لرفض القرار.

سياسة معاداة الثقافة

يصف القاص والمترجم والمسرحي أحمد الخميسي الاتجاه الوزاري إلى إغلاق قصور ثقافية عدة بالأمر المؤسف، إذ إنها قامت بدور كبير في نشر الوعي على رغم كل مشكلاتها. ويقول "كنا نتمنى أن نسمع عن افتتاح مزيد من المراكز الثقافية وليس إطفاء نورها على هذا النحو". ويأتي ذلك، وفق الخميسي، "في سياق سياسة مستمرة تعادي الثقافة وتهدر دورها وتقلص أنشطتها، وتزامناً مع هدم مدافن كبار علماء مصر وأدبائها، كمدفني أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وهدم مسارح ودور عرض تاريخية".

ويرى الشاعر شوكت المصري، أستاذ مساعد النقد الأدبي الحديث بأكاديمية الفنون، أنه لا توجد بدائل ثقافية مطورة وفاعلة كما تزعم وزارة الثقافة، لأن المشروعات أو الاستثمارات الثقافية المفترض أن تقوم بها الوزارة غير مطروحة أصلاً بصورة فاعلة، فالوزارة عاجزة عن تقديم الخدمة وعن تقديم الاستثمار. والحل من وجهة نظر شوكت المصري توقف الوزارة عن التفريط في مواقع قصور الثقافة المختلفة، ووضع خطط جديدة لتشغيل هذه المواقع بكوادر متخصصة بالاعتماد على التطور الرقمي، واستحداث أنشطة جاذبة للشباب والناشئة والأطفال، وتشغيل عاملين مدربين إدارياً وموهوبين في الفنون والآداب المتنوعة.

وتوضح الناقدة نانسي إبراهيم مدرس الأدب والنقد الحديث بكلية الآداب في جامعة قناة السويس أن أزمة قصور الثقافة الراهنة تكشف عن خلل عميق في النظرة المؤسسية الضيقة إلى دور الثقافة في التنمية المجتمعية باعتبارها رفاهية وعبئاً زائداً، بخاصة في الأطراف الحدودية والمناطق الريفية والمهمشة. وترى أن قرار إخلاء 120 بيت ثقافة ومكتبة لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لتراجع دعم الثقافة بوصفها قطاعاً غير منتج مادياً، وتلك النظرة ليست وليدة اللحظة، بل امتدت لأكثر من عقدين، في وقت يتجاهل فيه هذا المنطق القاصر الأثر العميق والمركب للثقافة في تشكيل الوعي وبناء الإنسان. وفي هذا القرار إشارة إلى رغبة غير معلنة في تقليص نفوذ الهيئة، وربما المضي نحو إلغائها تدريجاً.

والحل، تضيف نانسي إبراهيم، يكون بإعادة هيكلتها، وتوسيع التعاون مع المجتمع المدني والمبادرات المحلية، وضخ استثمارات رمزية تعيد إليها الحياة.

من جهته يشير الشاعر والناقد الأكاديمي وليد الخشاب إلى أن مصر قد اقتبست كثيراً من سياساتها الثقافية من أوروبا، وقصور الثقافة (الثقافة الجماهيرية) مستوحاة من سياسات فرنسية وروسية طبقت في أرجاء أوروبا في الخمسينيات والستينيات بهدف تقديم الخدمات الثقافية للجماهير، بعيداً من العاصمة والمدن الكبرى. ومشكلة عالم اليوم أن دولاً كثيرة حتى في أوروبا تتخلى عن مفهوم الثقافة كخدمة من واجب الدولة تقديمها للجميع، متبعة النموذج الأميركي الذي لا ينظر للمؤسسات إلا من حيث قدرتها على تغطية نفقاتها بموازنتها الخاصة، دون اعتماد على الأموال العامة.

وهذا المنطق له ما يبرره في أميركا، وفق الخشاب، لأن المواطن يستطيع الحصول على مواد ثقافية متنوعة عبر الكنائس والإذاعات الخاصة ومنصات الفضاء الافتراضي. أما في مصر، فمعادل هذه المصادر جهات ومنابر تقدم خطاباً محافظاً أو متطرفاً، ومن المؤسف تخفيض إنفاق المؤسسات الثقافية بالمنطق المحاسبي.

مافيا وفساد

أما الشاعر وكاتب السيناريو صادق شرشر فيتفق مع وزارة الثقافة في إعادة النظر لبيوت الثقافة لأنها "غير مفيدة وغير مؤثرة، وهناك مافيا تستفيد منها، وتديرها بالمجاملات دون تقديم وجبة ثقافية حقيقية للجمهور. وهؤلاء الفاسدون يجب طردهم وليس ترويضهم، وبهذه الموازنة الضخمة يمكن إنشاء مشروع نشر كبير مثلاً يستفيد منه أهالي المنطقة الواقعة في محيط بيت الثقافة الذي يتم إغلاقه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أن صادق شرشر يعارض غلق المكتبات قائلاً "هذا جنون، والأنسب إنشاء مكتبة بدل بيت الثقافة الذي يشبه التكية، وبدل المؤتمرات الفاشلة، إذ يجب دعم البدائل المتطورة ونشر الكتب الورقية والإلكترونية".

وترى الكاتبة والمترجمة هناء نصير أن استمالة الناشئة إلى روافد ثقافية ضرورة في ظل المتاح على الأرض من تيارات دينية بعضها متشدد. وتكمن المشكلة في رؤية الجهاز الإداري للدولة للثقافة كمكلمة غير مفيدة، وأنها أول جهة يمكن أن تخضع للتقشف الحكومي. والحل لتردي أداء بعض قصور الثقافة لا يكون بالإغلاق، ولكن بالإصلاح. وإصلاح الأمر، وفق هناء نصير، يبدأ بتغيير رؤية إدارة الدولة، والتخلي عن الرغبة في جني الأرباح من كل شيء، والاقتناع بأن الاستثمار في العلم والثقافة نافع على المدى الأبعد.

التطوير والبديل الجاد

أما الروائية سهير المصادفة رئيسة الإدارة المركزية للنشر بالهيئة المصرية العامة للكتاب سابقاً، فتوضح أن الواقع الثقافي شهد آليات مختلفة للندوات والمؤتمرات، مثل لقاءات الزوم والمحاضرات على الهواء، ولم يعد أحد يحضر الندوات والمحافل التي شابها كثير من الانحرافات مثل الشللية والمنافع المتبادلة بين المسؤولين والضيوف.

وتعتبر سهير المصادفة أن غلق أية نافذة ثقافية مؤلم للغاية، ولكن قصور الثقافة لم تطور أداءها ولم تبتكر جسوراً جديدة وفعالة مع الميديا الحديثة، كما أنها لم تحافظ على دورها الرائد الذي أنشئت من أجله. ومن ثم، فقد حملت بذور نهايتها في الآونة الأخيرة. وتعتقد القاصة وكاتبة الأطفال إيمان سند أنه يجب على المثقفين منح وزارة الثقافة الفرصة للكشف عن الاستراتيجيات البديلة بعد قرار إخلاء بيوت الثقافة والمكتبات المستأجرة، وأن تتم مناقشة هذه الاستراتيجيات، والتعرف عليها، والتأكد: هل تمثل حلاً للقضية أم لا؟ وترى إيمان سند أنه يجب ضمان عدم غلق أي مكان دون إيجاد بديل له، أو محاولة تحسين وضعه وحل مشكلاته وتطوير أدائه، فأي موقع ثقافي هو ضرورة ثقافية وليس ترفاً.

subtitle: 
أزمة قصور الثقافة في مصر... إخلاء للتحديث أم للإغلاق؟
publication date: 
الاثنين, مايو 19, 2025 - 14:15
Read Entire Article