ما بين اللامركزية والفيدرالية في سورية

4 hours ago 2
ARTICLE AD BOX

يختلط، في النقاشات السورية التي تلت سقوط نظام الأسد، الحديث عن الفيدرالية واللامركزية، كما لو أنهما مصطلحان مترادفان. تارّة تُتهم الفيدرالية بأنها مشروع تقسيم، وتارّة يُقارب الحديث عن اللامركزية كما لو أنه مجاز لغوي للفيدرالية، ما يجعل من أي دعوة إلى إعادة هيكلة العلاقة بين المركز والأطراف تهمة مسبقة بالانفصال. في الحالتين، يبدو أن المشكلة لا تكمن في المفاهيم نفسها، بل في السياق السياسي المُحمّل بالتوجّس، وفي ذاكرة السوريين التي لم تعرف من السلطة إلا شكلها المركزي الصارم. ولكن قبل أن نمضي في التقييم، من المفيد أن نفصل بين المفهومين، في جوهر علاقتهما بطبيعة الدولة، وبالسلطة، وبالهوية الوطنية.

اللامركزية، من حيث التعريف العملي، هي توزيع جزئي للصلاحيات داخل الدولة الواحدة، بحيث تبقى السيادة موحّدة، ولكن تُمنح الوحدات الإدارية (بلديات، محافظات، مجالس محلية) القدرة على اتخاذ قرارات في قطاعات محدّدة كالصحة، والتعليم، والخدمات. أما الفيدرالية، فهي نظام سياسي– دستوري أكثر تعقيداً، تُوزّع فيه السيادة بين الحكومة المركزية والكيانات الفيدرالية، وتتمتع هذه الكيانات بدستور أو قوانين خاصة، أحياناً ببرلمان، وقوة أمنية، وقواعد مالية خاصة بها. والفرق هنا جذري، فالفيدرالية تعني أن الدولة مكوّنة من "وحدات سياسية" متمايزة، ولكنها متّحدة. أما اللامركزية فهي مجرّد إعادة توزيع للوظائف داخل بنية دولة موحّدة لا تتغيّر طبيعتها القانونية.

كل محاولةٍ في سورية لطرح الفيدرالية تُقابل برفضٍ مسبق. ليس فقط لأن الفكرة مرتبطة في أذهان كثيرين بمشروع انفصال، لكن الخطاب الوطني نفسه بُني تاريخياً على مركزية الدولة بوصفها خط الدفاع الأول ضد أي محاولةٍ للتجزئة. ما يجعل من كلمة "الفيدرالية" ثقيلة في الوعي السياسي السوري، حتى قبل أن تُفهم بتفاصيلها.

السؤال في سورية اليوم ليس كيف نمنع التقسيم، وإنما كيف نُنظّم واقعاً منقسماً أصلاً، ضمن عقد سياسي واضح، يضمن بقاء البلاد ضمن وحدة سياسية مع الاعتراف العملي بتعدّد مراكز القرار.

ينبّهنا ديفيد هيلد، في قراءته لتحوّلات الدولة الحديثة، إلى أن المركزية الصلبة التي نشأت في القرن العشرين لم تعُد صالحة لعالم تعدديّ. إذ لم تَعُد السيادة تعني الاحتكار الكامل للقرار، وإنما القدرة على التنسيق بين مستويات السلطة المختلفة، بشرط المساءلة والشفافية. هذا تماماً ما تفتقده سورية، وهذا ما يجعل من اللامركزية اليوم شرطاً للتماسك.

في التجربة الألمانية، لم تنتج الفيدرالية انقساماً، بل رسّخت التمثيل السياسي والاجتماعي على مستوى الولايات، وأوجدت نمطاً من "التنافس العادل" في تقديم الخدمات والتنمية. وفي العراق، رغم هشاشة الوضع الأمني، خفّف الاعتراف بكيانات متعدّدة (كردستان العراق نموذجاً) ضمن الدولة العراقية من حدّة المطالب الانفصالية. أما في لبنان، الذي لم يعلن يوماً عن كونه دولة فيدرالية، فغياب نظام لا مركزي حقيقي أو فيدرالي، جعل كل طائفةٍ تدير شؤونها عملياً خارج الدولة، ما ساهم في تآكل فكرة المواطنة الجامعة.

العقل المركزي الذي ورثه الجميع من زمن الأسد ما زال يحكم الخيال السياسي

رغم أن اللامركزية تُطرح اليوم وكأنها ابتكار حديث أو استجابة استثنائية لما بعد النزاعات، إلا أن جذورها تعود في التاريخ السوري إلى بدايات القرن العشرين. ففي 1922، وفي ظل الانتداب الفرنسي، طُرحت صيغة "الاتحاد السوري" بكونها ترتيبا إداريا ضمّ ثلاث وحدات: دمشق، حلب، والساحل. ورغم أن السياق كان استعمارياً ومشحوناً بنيات التقسيم، أشار هذا النموذج، ولو بشكل أولي ومشوَّه، إلى إمكانية إدارة الدولة بصيغٍ لا مركزية تمنح المحليات هامشاً من الصلاحيات. لكن المهم هنا ليس النموذج الذي فرضته سلطة احتلال، بل النقاشات التي أُثيرت في تلك المرحلة بشأن توزيع السلطات بين المركز والمحيط. فقد شهدت تلك اللحظة، على هشاشتها، ولادة تخيُّل سياسي في سورية عن إمكانات الحكم المحلي وتعدّد مستويات السلطة، وهو تخيُّل لم يُستكمل لاحقاً، لكنه ظلّ يلوح احتمالا مؤجّلا في ذاكرة التجربة السورية.

يذكّرنا الفقيه الدستوري الفرنسي، موريس دوفرجيه، بأن اللامركزية ليست نصّاً قانونياً، بل علاقة ثقة بين الدولة والمجتمع المحلي، وهذه العلاقة لم تنشأ في سورية في غالب المراحل، فظلّ التوجّس من المجتمعات المحلية أقوى من الرغبة في منحها إدارة شؤونها.

لا يكفي الحديث في سورية اليوم عن الفيدرالية بوصفها إعلاناً سياسياً، ولا عن الوحدة بوصفها قدراً مقدّساً. المطلوب إعادة تفكير جذرية في شكل الحكم، تُبنى على إدراك لتعدّد البنى الاجتماعية والثقافية، ولتفكك السلطة المركزية السابقة من دون قيام بديل شرعي متماسك. في هذا الفراغ، لا يمكن الركون إلى جهاز بيروقراطي مترهّل، ولا إلى مركزٍ يمسك الصلاحيات بلا أدوات فعالة. وحدها مقاربة عادلة وواقعية لإعادة توزيع السلطة يمكن أن تمنح السوريين فرصة لبناء دولة قابلة للحياة. ولا يزال ما طرحه بيير روسانفالون قبل عقدين عن "الدولة العادلة" صالحاً تماماً للسياق السوري، فالعدالة الإدارية شرط للثقة السياسية، وأي نظام لا يُعيد توزيع السلطة يصبح مع الوقت أداةً لتعميق الانقسام، ولو لم يكن يقصده.

المطالبة بالفيدرالية لا تعني بالضرورة رفضاً للوحدة، كما أن عدم الثقة بالمركز ليس جريمة سياسية. ثمّة من يرى في الفيدرالية وسيلة لحماية خصوصيته، وثمّة من يراها أفقاً لتحقيق مواطنة أكثر توازناً وعدلاً. وفي الحالتين، أي صيغة حكم عادلة يجب أن تُبنى عبر تفاهم وتفاوض يعترف بأن السيادة عقد اجتماعي متجدد، لا امتيازاً مغلقاً في يد سلطة واحدة. وسواء سميناها فيدرالية، أو لامركزية موسّعة، أو عقداً إدارياً جديداً، يتركّز جوهر النقاش اليوم حول استعداد السوريين لاقتسام السلطة بشكل عادل، أم أن العقل المركزي الذي ورثه الجميع من زمن الأسد ما زال يحكم الخيال السياسي.

لا يكفي الحديث في سورية اليوم عن الفيدرالية بوصفها إعلاناً سياسياً، ولا عن الوحدة بوصفها قدراً مقدّساً

في الظروف الحالية التي تعيشها سورية، لا توجد هيئة دستورية منتخبة أو مجلس تأسيسي يمتلك الشرعية الكاملة لصياغة شكل نظام الحكم الجديد، لكن هذا لا يعني أن الخيار بين الفيدرالية أو اللامركزية يجب أن يُحسم بتفاهمات فوقية أو ميزان قوى مؤقت. تقتضي المرحلة الانتقالية تأسيس مسار سياسي واضح نحو عقد اجتماعي جديد، يبدأ بتشكيل هيئة تأسيسية ذات شرعية تمثيلية نسبية على الأقل، تُبنى من خلال عملية تشاورية موسّعة بين قوى المجتمع المدني، والمكوّنات المحلية، والمجالس المنتخبة أو شبه المنتخبة إن وجدت، وبإشرافٍ أممي أو جهاتٍ ضامنة للانتقال. وهذه الهيئة، وإن لم تكن "منتخبة بالكامل" في المعنى الدستوري التقليدي، إلا أنها يجب أن تستمدّ شرعيتها من توازن واقعي وتوافقي، ومهمّتها الأساس صياغة مسودة دستور انتقالي أو دائم، يُطرح لاحقاً للاستفتاء الشعبي، ويحدّد فيه شكل الدولة، نمط الحكم، وقواعد تقاسم الصلاحيات.

... يجب أن يُبنى اختيار الفيدرالية أو اللامركزية على قراءة دقيقة لبنية الدولة والمجتمع، لتوزّع السكان، ولطبيعة الموارد، ولتجارب العيش المشترك في الماضي القريب. الفيدرالية، حين تُبنى على التوافق، قد توفّر استقراراً ذاتياً لوحدات جغرافية أو ثقافية تشعر بالتهميش أو القلق، وتشيع شعوراً بالانتماء الطوعي للدولة الجامعة. أما اللامركزية الإدارية، فإنها تمنح المجتمعات المحلية القدرة على إدارة شؤونها اليومية من دون المساس بالبنية السيادية للدولة، وتُعدّ أداة مرنة لإعادة التوازن بين المركز والأطراف.

في ظل سلطةٍ انتقاليةٍ هشّة، وبلد أنهكته المركزية العنيفة عقوداً، تبدو الحاجة ماسّة إلى فتح نقاش هادئ حول الخيارين، بوصفهما أدوات سياسية وإدارية يمكن أن تساهم في إنتاج عقد وطني جديد يُراعي التعدّد، ويعيد توزيع الثقة، ويجعل من الدولة حاضنة. الشكل النهائي يجب أن يُتوافق عليه عبر عملية تشاركية واسعة، ويُقرّ عبر دستور حيٍّ يكتبه السوريون بأيديهم، لا يُنسخ عن تجارب الآخرين، ولا يُصاغ لإرضاء قادة المرحلة الانتقالية.

Read Entire Article