ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">دونالد ترمب ومارك كارني في المكتب البيضاوي، الإثنين 5 مايو (أ ب)</p>
وصف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاتفاق بأنه "يوم رائع وتاريخي"، لكن بينما كان وترمب مشغولين بتمجيد خطتهما واعتبارها "إنجازاً كبيراً"، ظلت التفاصيل غير واضحة. فبعد كل توسلاته وإذلاله لنفسه داخل المكتب البيضاوي، ورسالة الملك، وكل ما رافق ذلك، لم نكن نعرف على وجه اليقين سوى أن المملكة المتحدة باتت تملك قدرة أقل على الوصول إلى الأسواق الأميركية، بينما حصلت الولايات المتحدة على قدرة أكبر على النفاذ إلى الأسواق البريطانية مقارنة بما كان عليه الحال خلال فبراير (شباط) الماضي، ولا تزال نسبة التعريفة الجمركية البالغة 10 في المئة قائمة.
لن يقدم هذا الاتفاق أية فائدة تذكر للاقتصاد البريطاني، بل إن محافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي صرح بالفعل بأن الاتفاق غير كاف لتبديد حال عدم اليقين. وكل ما نعرفه بيقين هو أن البريطانيين باتوا يتصدرون العالم في التذلل أمام ترمب من دون أن يحققوا مكاسب ملموسة. وكما أثبتت التجربة الكندية أخيراً، فأنا واثق أيضاً من أن ترمب لن يتردد في تمزيق الاتفاق متى شاء.
لهذا السبب، اختار رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني لهجة مغايرة. ولخص حملته الانتخابية بجملة واحدة "علاقتنا القديمة بالولايات المتحدة، القائمة على الاندماج المتزايد تدريجاً، انتهت"، على حد قوله.
وبعد أسبوع واحد فقط من فوزه، توجه كارني إلى البيت الأبيض لحضور أهم اجتماع يعقده زعيم أجنبي هناك منذ إذلال زيلينسكي. ولم يتحدث كارني كثيراً، ولم يكن مضطراً إلى ذلك. فقد أظهر التباين بين الرجلين مدى التباعد الذي وصلت إليه الدولتان. كندا بزعامة كارني تقف الآن في طليعة الجهود الدولية لبناء هياكل اقتصادية وسياسية وعسكرية، من دون الاعتماد على الولايات المتحدة.
كارني هو التجسيد الحي للنظام العالمي القائم على القواعد. إنه نقيض ترمب تماماً، رجل رصين ومحترم ومسؤول، سارت به الحياة من نجاح إلى آخر، إنه من نخبة مديري الأزمات المالية ويتمتع بخبرة كبيرة في التعامل مع أزمة 2008 ومع بريكست، بداية كمحافظ لبنك كندا ثم كمحافظ لبنك إنجلترا. وعلى عكس ترمب، لا يلفت الأنظار أو يثير الصخب.
قال كارني في تجمع انتخابي قبيل الانتخابات "أنت تخوض حملتك الانتخابية بلغة الشعر، وتحكم بلغة النثر. أما أنا، كما سيقول لكم الإعلاميون المجتمعون هنا، فقد خضت حملتي بلغة النثر، ولذلك سأتولى الحكم بلغة الاقتصاد القياسي". وهذا وحده يكشف إلى أي مدى هذا الرجل سياسي لا يسعى إلى الإبهار. إنه يستخدم "الاقتصاد القياسي" كنكتة.
لكن كندا لا تشعر برغبة في الضحك حالياً على أي حال. والعلاقة المدمرة مع جارتها لم تعد مسألة حزبية، فالإحساس بالخطر القادم من الولايات المتحدة بات مفهوماً عبر الطيف السياسي بأكمله. ليس الأمر كما لو أن المحافظين اتخذوا موقفاً مختلفاً. فقد كان بيير بولييفر مرشح حزب المحافظين واضحاً تماماً حين قال "كندا لن تكون أبداً الولاية رقم 51". أما ستيفن هاربر الذي شغل منصب رئيس الوزراء لـ10 أعوام، فقد أعلن أن على البلاد أن تتحمل "أي مستوى من الضرر" في مواجهة محاولات الضم الأميركية.
وانتخب الكنديون مارك كارني جزئياً من أجل الوقوف في وجه دونالد ترمب، والعالم يلاحظ ذلك. وباعتباره أحد أبرز خبراء الاقتصاد في العالم ورجلاً يمتلك شبكة علاقات عميقة داخل النظام الاقتصادي العالمي، فهو في أفضل موقع لقيادة كندا بعيداً من دائرة النفوذ الأميركي، وباتجاه بناء مؤسسات جديدة تحمي البلاد من الولايات المتحدة التي باتت عدوانية على نحو متزايد. وحرب الرسوم الجمركية ليست سوى البداية.
تشبه "استراتيجية" ترمب التجارية -إن جاز لنا تسميتها كذلك- المشهد الشهير في فيلم "السروج المشتعلة" Blazing Saddles، حين يأخذ قائد الشرطة نفسه رهينة بتصويب المسدس إلى رأسه. لا يمكن التخطيط لفوضى إدارة أميركية كهذه. قد يغير ترمب رأيه فجأة في شأن الرسوم الجمركية إذا اشتد الألم الاقتصادي في الداخل الأميركي. وربما يمكن حل التهديدات التي تواجه كندا برشوة مباشرة، عبر واحدة من مخططات العملات الرقمية الهزلية التي يتبناها ترمب.
لكن كندا بدأت تتكيف فعلاً. فبعد فرض الرسوم الجمركية، تراجعت صادرات كندا إلى الولايات المتحدة بنسبة 6.6 في المئة، لكن صادراتها إلى باقي أنحاء العالم ارتفعت بنسبة 24.8 في المئة، مما عوض الفارق تقريباً بالكامل. ويبدو أن أميركا لم تعد أمة لا غنى عنها.
لقد علم ترمب كندا -ومن خلالها العالم بأسره- درساً لا يقدر بثمن، إذا أبرمت اتفاقاً مع الحكومة الأميركية، كما فعل الكنديون مع إدارة ترمب الأولى عام 2018، فذلك لا يعني شيئاً، ويمكنهم ببساطة أن يغيروا رأيهم في أية لحظة. وإذا اشتريت معدات عسكرية أميركية، فإن الرئيس نفسه كان واضحاً في قوله إنك تشتري نسخة منقوصة الجودة، لأنه "نحب أن نقلل من كفاءتها بنسبة 10 في المئة تقريباً، ويبدو أن هذا أمر منطقي، لأنه ربما في يوم ما لن يكون هؤلاء حلفاءنا، أليس كذلك؟". وهذا السؤال لا ينطبق على كندا فحسب، بل على جميع حلفاء أميركا.
لقد علم ترمب كندا، وبقية العالم، درساً لا يقدر بثمن مفاده أنك إذا أبرمت صفقة مع الحكومة الأميركية، فتلك لن تكون صفقة
وبصرف النظر عن مسألة التهديد لسيادتها، لا يمكن لكندا أن تظل مربوطة بحيوان يحتضر. سواء كان ترمب في الصورة أم لا، فإن الحال الأميركية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. السياسة الحزبية المتطرفة والتفاوت الهائل في الاقتصاد وتراجع الثقة في المؤسسات، وانهيار النظام القضائي وتصاعد الشعور بعدم شرعية السلطة نفسها، كل هذه النيران على وشك أن يُسكب عليها وقود الفقر الجماعي.
ومن المرجح أن تكون الـ100 يوم المقبلة لترمب أكثر فوضوية من الـ100 يوم الماضية. فعندما تواجه الولايات المتحدة أزمة سقف الديون المقبلة خلال أغسطس (آب) أو سبتمبر (أيلول) المقبلين، من المحتمل أن تكون دخلت في حال ركود، فيما تتجاوز كلفة خدمة الدين الإنفاق العسكري، وتطرح وعوداً بخفوض ضريبية بقيمة 5 تريليونات دولار، دون أية نية لخفض الإنفاق على برامج "ميديكيد" أو "الضمان الاجتماعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا بد من حدوث شيء ما لأن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر. أميركا على وشك مواجهة بعض القرارات الاقتصادية التي يتطلب اتخاذها قدراً كبيراً من النضج. ولكن لا يوجد ناضجون في الإدارة الحالية للقيام بذلك. إن تنمر أميركا خطر، بيد أن التدمير الذاتي الذي تقوم به هو في الواقع ما يجب أن تخشاه كندا وبقية العالم.
قال كارني في بداية حملته الانتخابية "إذا لم تعد الولايات المتحدة راغبة في القيادة، فستتولى كندا المهمة". أما رئيس وزراء أستراليا السابق مالكوم تورنبول -"نظيرة كندا الأكثر دفئاً" كما يطلق عليها– فقال "كارني هو رجل المرحلة". من بين الدول ذات النفوذ المتوسط، نحن الأقدر على فهم أميركا. نحن أقرب إليها من الأوروبيين أو اليابانيين. نراها بوضوح أكبر. الولايات المتحدة أشبه بحافلة يقودها ترمب نحو الهاوية، ووظفت كندا مارك كارني كي يقفز منها بأقل قدر ممكن من الخسائر، وسيتعين على بقية العالم أن يحذو حذونا حين يدرك أن الخيار الآخر هو التحطم.
اختار ستارمر مساراً آخر، مساراً لا يوفر الأمان ولا الاستقلال، لا سيما الآن بعدما بات ترمب يعلم أن بريطانيا سهلة الانقياد. قد يشعر ستارمر بالثقة اليوم، لكن مع تكشف مزيد من التفاصيل، سيتساءل كثر ما إذا كان عليه أن يحذو حذو كارني بدلاً من ذلك.
كتاب "الحرب الأهلية المقبلة: رسائل من مستقبل أميركا" من تأليف ستيفن مارش، صادر عن دار سايمون أند شوستر.