ARTICLE AD BOX
أن تقرّر إسرائيل شنّ هجوم عسكري شامل على إيران، هو الأول من نوعه منذ الثورة الإيرانية عام 1979، فهذا يعني أن ثمّة قراراً إسرائيلياً أميركياً مشتركاً أن الوقت قد أزف لتحييد إيران نهائياً على المستوى الاستراتيجي في المنطقة، بعد إلحاق أضرار كبيرة بمقدّرات حركة حماس في غزّة وحزب الله في لبنان، وسقوط نظام الأسد في سورية. لا تُبنى نوعية هذا الهجوم على مجرّد انتهاز الفرص الآنية، بقدر ما تُبنى على حساباتٍ دقيقة للنتائج القريبة والبعيدة المدى، كما تُبنى على حساب القدرات العسكرية لكلا الجانبَين. فما كانت إسرائيل لتشنّ هذا الهجوم إلا من أجل تحقيق أهداف استراتيجية كبرى، ضمن مقاربة استراتيجية مفادها تدمير القوة العسكرية والنووية الإيرانية، أو على الأقلّ توجيه ضربة شديدة لهما، من شأنها أن تُقوقع إيران داخل مجالها المحلّي وتكسر قدرتها على التحرّك الإقليمي، بما يعني ذلك إزالة التهديد الإيراني تجاه إسرائيل.
بدا واضحاً التفوّق الإسرائيلي، سواء على مستوى تكتيك الحرب، أو على مستوى الأهداف العسكرية
تقوم المقاربة الإسرائيلية تجاه إيران، التي صاغها رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، على أمرَين. الأول، عدم الفصل بين الملفّ النووي الإيراني وسلوك إيران تجاه إسرائيل والمنطقة. والثاني، أن أي مفاوضات أميركية إيرانية لن تغيّر أبداً من توجّهات طهران حيال إسرائيل والمنطقة، كما لن تؤدّي إلى تراجع إيران عن بناء ترسانتها العسكرية والنووية. حتى تنجح هذه المقاربة يجب أن يكون الهجوم مركّباً وواسع النطاق: أهداف عسكرية، وأهداف بشرية (علمية وعسكرية وأمنية، وربّما سياسية)، واختراق استخباراتي، وعمل ميداني من داخل العمق الإيراني.
بناءً على الأيّام الثلاثة الأولى من الحرب الإسرائيلية، بدا واضحاً التفوّق الإسرائيلي، سواء على مستوى تكتيك الحرب؛ طائرات إسرائيلية متطوّرة تشنّ هجمات متزامنة من قواعد عسكرية مختلفة، أو على مستوى الأهداف العسكرية؛ مفاعلَي نطنز وأراك، ومقرّ خاتم الأنبياء، وقواعد للصواريخ في أماكن متعدّدة من إيران، ومصنع صواريخ شيراز، ومطار تبريز العسكري، ومخازن الصواريخ في كرمنشاه وغيرها، ومحطّات رادار، وميناء بندر، وحقل غاز بارس، أو على مستوى استهداف شخصيات علمية وعسكرية؛ اغتيال تسعة علماء وخبراء منهم علي بكايي كريمي ومنصور عسكري وسعيد برجي، إضافة إلى جنرالات عسكريين منهم رئيس هيئة الأركان المشتركة الفريق محمد باقري، وقائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي، والمسؤول عن العمليات في هيئة الأركان العامّة العميد مهدي رباني، والمسؤول عن شؤون الاستخبارات في الهيئة نفسها العميد غلام رضا محرابي، وقائد القوة الجوفضائية العميد أمير علي حاجي زاده.
تشير هذه المعطيات، مُضافاً إليها عمليات عسكرية إسرائيلية من داخل العمق الإيراني (عمليات خاصّة نفّذها الموساد، شملت تفجير صواريخ وأنظمة دفاع جوي وزرع أجهزة تشويش) إلى مأزق استخباراتي وعسكري إيراني، وبلغة الجبهات، يعني ذلك أن إيران مضطرّة للمحاربة في جبهتَين داخلية وخارجية. كما أن الهجوم العسكري المضادّ لم يكن متماثلاً في حجم الهجمات الإسرائيلية وقوتها، فلا يوجد حتى اللحظة أي استهدافات إيرانية للبِنية العسكرية الإسرائيلية، بما يؤدّي إلى إلحاق ضرر فيها. صحيحٌ أن الصواريخ الإيرانية استهدفت وزارتي الحرب والاقتصاد، ومبنى للاستخبارات في تل أبيب، ومقرّ الاستخبارات في شمال إسرائيل، إضافة إلى منازل بعض القادة الإسرائيليين، وقاعدة تل نوف الجوية، ومركز تل أبيب المالي، ومنصّة الغاز قبالة سواحل غزّة، والقاعدة الجوية نيفاتيم في الجنوب، وبطارية القبّة الحديدية وسط إسرائيل، إلا أن هذه الهجمات لم تلحق أي ضرر بشخصيات علمية أو عسكرية أو أمنية إسرائيلية رفيعة المستوى، كما أن الإصابات التي أُلحقت بالمباني والقواعد العسكرية، لم تكن خطيرة في معظمها.
على الرغم من ذلك كلّه، لا يقتصر إجراء تقييم عسكري للحرب التي من هذا النوع على الأيّام الأولى، بل يتحدّد التقييم العسكري لها بناءً على أمرَين. الأول قدرة إسرائيل على تحويل النجاح الآني، الذي تحقّق خلال الأيام الأولى من الحرب إلى نتائج ملموسة في أرض الواقع، على المدَيين المتوسّط والبعيد. الثاني، قدرة إيران على امتصاص الضربات الإسرائيلية، ثمّ استمرارها في قصف إسرائيل بصواريخ باليستية.
تبدو إيران في مأزق استخباراتي وعسكري، فهي مضطرة للمحاربة في جبهتَي
لا تتحمّل إسرائيل حرباً طويلة المدى زمنياً، فمثل هذه الحرب ستؤدّي إلى توجيه ضربة هائلة للاقتصاد الإسرائيلي، وللبنى المدنية التحتية، وللبنى العسكرية، بينما تمتلك إيران (بحكم مساحتها الشاسعة البالغة نحو مليون وستمئة ألف كيلومتر مربّع، وبثقل سكّاني كبير، وباقتصاد حرب، وبأسلحة متطوّرة) القدرة على امتصاص الضربات الإسرائيلية إذا ما نجحت في منع استهداف غالبية قواعدها ومنشآتها العسكرية. كما تمتلك إيران القدرة على تغيير قواعد اللعبة في الخليج العربي، بما يؤثّر سلباً في الاقتصاد العالمي، فضلاً عن امتلاكها حلفاء مستعدّين لتزويدها بالسلاح: روسيا والصين وكوريا الشمالية وباكستان.
بناء على ما تقدّم، يصعب القول في هذه المرحلة ما إذا كانت إيران في مأزق استراتيجي أم أن إسرائيل فيه، أم كليهما معاً، فإيران قادرة على تحمّل آلاف الصواريخ، في حين أن إسرائيل لا تتحمّل هذا الكمّ، إيران قادرة على تحمّل عدد كبير من القتلى، بينما لا تتحمّل إسرائيل ذلك.
