ARTICLE AD BOX
السؤال مشروع، بل وضروري أيضاً، شرعية السؤال وأهميته تنبعان من شرعية (وأهمية) وصول الفلسطينيين إلى حقوقهم في الحرية والاستقلال، لكن السؤال ليس هو البداية، إنما البداية لماذا أصلا يُفترض أن يكون سلام؟ وهل بعد كل ما يجري في قطاع غزّة من إبادة جماعية وتطهير عرقي يمكن أن يكون سلام؟
إذا كان الأمر متعلقاً بالرغبة أو المشاعر، فما جرى ويجري في قطاع غزّة وشمالي الضفة الفلسطينية يعطي إشاراتٍ واضحة إلى أن السلام يبتعد، لا بل ويبتعد كثيراً إلى حد الاستحالة، فحجم الجريمة أكبر من أن يجري تجاوزه والتعاطي معه حدثاً من أحداث الحرب. ولكن السلام ليس الابن الحقيقي للرغبات، إنه وليد الحاجات والمصالح. أصبحت الحاجتان، الفلسطينية والإسرائيلية، للسلام بعد الحرب أكبر وأكثر أهمية مما كانت قبل الحرب، لسببيْن: الأول أن تلك الحرب أكدت، بما لا يضع مجالاً للشك، ما كان معروفاً سابقاً استحالة حسم الصراع أمنياً أو عسكرياً، القوة المطلقة التي تتمتّع بها إسرائيل تضيف خسائر بشرية أو مادية، إصرار الفلسطينيين على مواصلة المقاومة المسلحة واستخدام أدوات عملٍ إبداعيةٍ واستغلال عنصر المفاجأة يحقّق انتصارات تكتيكية. وفي النهاية، لا حسم للصراع، مثلما أن الشعب الفلسطيني لن يختفي، فالوجود اليهودي على هذه الأرض أيضا لن يختفي، وهكذا تتواصل المعادلة الصفرية، نهاية كل جولة صراع مقدّمة لجولة أخرى. أما السبب الثاني: الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي ألحقتها هذه الحرب بالشعبين أكدت أن تكلفة استمرار الصراع أعلى من المقدرة على تحمّل استمراره، ومهما قيل عن تلك الكلفة سواء لدى الفلسطينيين أو الإسرائيليين فإن ما يقال جزء يسير جدّاً من الكلفة الحقيقية.
إذن، وبحساب الضرورة والحاجة والمصالح، جعلت تلك الحرب السلام أكثر إمكانية. وهنا يتجلى التناقض بين المشاعر والأحقاد ونزعة الثأر من جهة وبين المصالح والاحتياجات الإنسانية من جهة أخرى. صحيحٌ أن المشاعر تهيمن وتسيطر، في بادئ الأمر، لكن الإنسان، في نهاية المطاف، تقودُه احتياجاته ومصالحه، وهذا ما يجعل تلك الحرب تقرّب الشعبين من السلام أكثر من أن تبعدهما. وإذا ما أخذنا تلك الحقيقة في الاعتبار، فإن ذلك يجعلنا ننتقل إلى حيث بدأنا: لماذا دولتان في بلاد واحدة؟
... وحتى لا يسأل كثيرون عن المقصود بمفهوم دولتين في بلاد واحدة، فان توضيحه سيأتي في سياق توضيح مبرّرات وجوده، وهذا سيجعلنا نفهم المقصود من خلال توضيح مبرّراته.
إزالة التخوفات من الديمغرافيا أمر مهم لإقامة ثقة مستقبلية، وكذلك الأمر لتفكيك البنية الاستيطانية وتحويل الوجود اليهودي في الدولة الفلسطينية إلى وجود جالية أجنبية في دولة أخرى
الأساس في الموضوع حلّ الدولتين، والذي استهلك ثلاثين عاماً من المفاوضات المتعثرة والتي أفضت إلى فشل ذريع كان السبب الأساس في تنامي العنف وتأجّج الصراع، وعندما نقول إن الأساس هو حل الدولتين، لأن مفهوم دولتين في بلاد واحدة يقوم بالضبط على مبدأ إقامة دولتين كاملتي الاستقلال والسيادة على حدود 4 حزيران 1967، فلسطينية وإسرائيلية، تمكّنان كلا الشعبين من حقّ تقرير المصير، وتكون الدولتان بحدود مفتوحة تسمح بحرية التنقل والإقامة والعمل في الاتجاهين بكامل الحقوق المدنية، وبما يسمح لكل شعبٍ بأن يمارس حقوقه السياسية في الدولة خاصته. لا يغيّر هذا الجديد هذا من حقيقة أن هناك دولتين، ولكنه يضع آليات لتقام دولتان بدون فصل جراحي يؤدّي إلى مزيدٍ من المعاناة. الجديد ان كلا الشعبين لا يُجريان عملية جراحة لمشاعرهما اتجاه هذه البلاد، والتي يعتبرها كلٌّ منهما جميعاً وطناً. صحيحٌ أن له دولة على جزء، ولكن الوطن جميعه مفتوح أمامه بدون عوائق. الجديد أن لا نضطرّ إلى تعديلاتٍ في الحدود تمنع قيام دولة فلسطينية متواصلة وقابلة للحياة ومستقلة وسيادية. نحن هنا لم نجر تغييراً على الواقع، ولكننا أعدنا ترتيب هذا الواقع بطريقة تجعل الشعبين ينتصران من دون أن يكون النصر على حساب الشعب الآخر.
واجه حلّ الدولتين مشكلةً جعلت مفاوضات كامب ديفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك تفشل، وهي القدس، ولأن القدس فوق التحدّي الحقيقي لأي حل سياسي، ولا يمكن تجاوز الأمر عبر مبضع جرّاح يعيد تقييمها، حيث كل حيٍّ تقريباً مكان يسكُنه عددٌ من أبناء الشعبين، وأحياناً في البناء نفسه هناك سكان فلسطينيون وإسرائيليون. ولأن القداسة في القدس للمكان نفسه وبالحدّة نفسها، ولأن هناك سردية تاريخيّة فلسطينية وأخرى إسرائيلية لكل حجرٍ ولكل زقاق ولكل حي... لهذه الأسباب، قدّمت رؤية دولتين في وطن واحد سياقاً مختلفاً للمشكلة، حوّلت التحدّي إلى فرصة، قلت إن القدس الموحدة وبدون تقسيم، بدون جدران، بنظام أمني خاص وربما يكون أممياً، بمساواة خدماتية وإدارية عدداً وصلاحيات، هذه القدس، بشرقيّها وغربيّها هي عاصمة دولة فلسطين، وهي نفسها عاصمة دولة إسرائيل، ويستطيع كل شعبٍ أن يراها عاصمته التي يرغب ويعتقد.
وكما يصعب إلى حد الاستحالة على الفلسطينيين إسدال الستار على صراع طويل مرير وحوالي 60% منه لاجئ ومشرّد، يصعب على الإسرائيليين ترحيل 750 ألف يهودي من أماكن سكناهم. ولهذا قدّمت رؤية دولتين في وطن واحد سياقاً يستطيع فيه اللاجئون الفلسطينيون الإقامة والتنقّل والسكن في كل أنحاء البلاد، وهذا ينطبق على المستوطنين، مع ممارسة كليهما حقوقهم السياسية، كل في البلد الذي يحمل جنسيته، اللاجئون الفلسطينيون في فلسطين والمستوطنون الإسرائيليون في إسرائيل. ... إزالة التخوفات من الديمغرافيا أمر مهم لإقامة ثقة مستقبلية، وكذلك الأمر لتفكيك البنية الاستيطانية وتحويل الوجود اليهودي في الدولة الفلسطينية إلى وجود جالية أجنبية في دولة أخرى.
مفهوم دولتين في وطن معالجة واقعية وجذرية لمشكلات حل الدولتين تحول دون انتكاسته، وتساهم في إنجاح الوصول إليه
مفهوم دولتين في وطن معالجة واقعية وجذرية لمشكلات حل الدولتين تحول دون انتكاسته، وتساهم في إنجاح الوصول إليه، ولكنه لا يقف عند هذا الحد، هو حلٌّ منفتحٌ على المستقبل بآفاقه الرحبة، يستجيب للتحدّيات ويستثمر الفرص، وأكثر من ذلك يحول التحديات إلى فرص، لا يتجاهل هذا المفهوم الأمن، والذي هو الهاجس الأهم للشعبين، انطلق مفهوم دولتين في وطن واحد لتحقيق الأمن من مقولة وضع الشعبين على الدرجة نفسها من المصالح، لتصبح لهما الدرجة نفسها من الحرص على الأمن. لا تستطيع أن تحقق الأمن بجزاءات وآليات أمنية فحسب، تحتاج إلى إيجاد مصالح لدى الشعبين في استدامة هذا الحل لنتتج بذلك حوافز لحماية هذا الحل، فدولتان في وطن واحد حلّ يحقق مصالح الشعبين إلى الحدّ الذي يصبح فيه الحلّ مصلحة للشعبين، وهذا جوهر الفلسفة الأمنية، إضافة طبعا إلى عمل مشترك للتحقّق من أمن الشعبين.
يعزّز مفهوم دولتين في وطن واحد ما هو مشترك، ويحافظ على الخصوصية فيما هو مختلف، وهو من الآليات التي تُنقذ حلّ الدولتين التقليدي، رغم أنه ليس حلّ الدولتين، هو منفتحٌ على أفقٍ أكثر رحابة، قد يصل إلى الدولة الواحدة، رغم أنه ليس حلّ الدولة الواحدة.
