ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">مع تعطل مؤسسات التعليم العالي وغياب سياسات تشغيل واضحة يجد مئات آلاف من الشبان أنفسهم عالقين في دوامة من البطالة القسرية والنزوح (رويترز)</p>
في ظل استمرار الحرب المستعرة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منذ الـ15 من أبريل (نيسان) 2023 تتفاقم التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، بخاصة على الأجيال الشابة التي تأثرت بصورة غير مسبوقة بتبعات هذا الصراع المستمر لأكثر من عامين، ولا سيما لجهة انهيار المنظومة التعليمية، وتراجع فرص العمل، واتساع رقعة النزوح الداخلي والخارجي، مما دفع كثيرين إلى إعادة النظر في تصوراتهم تجاه المستقبل.
بعيداً من الطموحات التقليدية التي كانت ترتبط بالتعليم الجامعي أو الاستقرار الوظيفي، باتت أولويات الشباب في مناطق النزاع ومراكز الإيواء أو في المنافي، تتجه نحو النجاة والتكيف مع بيئة تتغير بسرعة وبلا ضمانات.
مستقبل مجهول
بينما تدخل الحرب السودانية عامها الثاني، تتبدل أولويات وتصورات الأجيال الشابة، فالمستقبل الذي كان يرسم تقليدياً عبر مراحل التعليم ثم سوق العمل، بات اليوم مجرد فكرة ضبابية محاطة بالقلق وانعدام اليقين، فكثر من الشباب السوداني لم يعد يسأل "ماذا سأصبح؟"، بل "هل سأصل أصلاً إلى الغد؟".
مهاب الطيب، طالب سابق في كلية الهندسة بجامعة "السودان"، ونازح حالياً في مدينة ود مدني، يجسد هذه التحولات في قوله، "كنت على وشك التخرج، إذ تبقى لي فصل واحد فحسب، لكن للأسف اندلعت الحرب، وأغلقت الجامعة أبوابها، واحترق بيتنا، والتهمت النيران أوراقي وشهادتي، لم يكن لي خيار في ظل صعوبة الأوضاع المعيشية غير الاتجاه إلى السوق بحثاً عن عمل لكي أساعد أسرتي، وحالياً لم تعد لديَّ أي خطة ولا أفكر في المستقبل، هدفي أن أعيش اليوم بيومه".
حال مهاب، كحال آلاف الطلاب الذين انقطعت مسيرتهم الأكاديمية، لا بسبب ضعف التحصيل أو غياب الفرص، بل بفعل ظروف الحرب التي أنهكت المنظومة التعليمية وأجبرت مؤسسات بأكملها على الإغلاق أو النزوح.
في ظل هذه الظروف المعقدة، يلحظ تحول في أولويات التفكير لدى الشباب، فبينما كانت الطموحات تدور حول المنافسة على الوظائف المرموقة، أصبحت الأسئلة اليوم أكثر واقعية وقسوة يتمثل معظمها في: هل من سبيل لإكمال التعليم؟ هل العمل موقت أم دائم؟ هل ما زال هناك ما يبنى عليه مستقبل؟
تقول داليا سليم الباحثة في علم الاجتماع التربوي إن "هذا التحول النفسي في علاقة الشباب بمستقبلهم له آثار طويلة المدى، فنحن أمام جيل نشأ في سياق ثورة، ثم وجد نفسه فجأة في قلب حرب، هذه الصدمة المزدوجة أوجدت نوعاً من الانقطاع العنيف في التخطيط الذاتي، وأثرت في بنية الطموح نفسها، اليوم، كثر من الشباب لا يملكون أدوات التخطيط لأن الأساسيات مفقودة، وهذا ينعكس على اللغة التي يستخدمونها، وطبيعة أهدافهم، وسلوكهم تجاه التعليم والحياة"، وترى سليم أن "الأثر الأكبر يتمثل في التداخل بين البقاء والهوية، إذ أصبحت الخيارات اليومية كالعمل في السوق أو النزوح إلى مدينة جديدة، تعني، بالضرورة، التنازل عن جزء من التصورات القديمة عن الذات، فطالب الأمس صار نازحاً بلا وثائق".
وتتابع الباحثة التربوية "على رغم هذا الواقع القاسي، لا تغيب محاولات الصمود الفردي. فبعض الشباب اختار العودة للتعليم من بعد عبر الإنترنت، وآخرون يحاولون استثمار وقتهم في تعلم مهارات جديدة كالبرمجة أو اللغات. إلا أن هذه المبادرات، وإن كانت ملهمة، تظل استثناءات في ظل غياب بنية رسمية داعمة أو خطة وطنية لاحتواء جيل مهدد بفقدان مستقبله كلياً".
غياب سياسات توظيف واضحة
مع تعطل مؤسسات التعليم العالي وغياب سياسات تشغيل واضحة، يجد مئات الآلاف من الشباب السوداني أنفسهم عالقين في دوامة من البطالة القسرية والنزوح، من دون أفق تعليمي أو مهني. فالحرب لم تكتف بإغلاق الجامعات وإيقاف المصانع والأسواق، بل أسهمت في تعطيل الدورة الحياتية الكاملة لجيل شاب كان يخطو نحو بناء مستقبله.
آمنة عبدالرحيم، خريجة تربية أساسي من جامعة "النيلين"، اضطرت إلى النزوح من الخرطوم إلى مدينة بورتسودان بعد اندلاع القتال. تعمل اليوم بائعة شاي على رصيف شاطئ البحر لتأمين حاجاتها الأساسية، بعدما عجزت عن إيجاد وظيفة في تخصصها. تقول "كنت أنتظر وظيفة جيدة في مجالي بعد التخرج، لكن التقديم للخدمة الإلزامية توقف، وعندما نزحت حاولت إيجاد وظيفة في مدرسة خاصة، لكن لا توجد فرص، فاضطررت إلى العمل بائعة شاي على رغم أنني درست أربع سنوات للعمل معلمة وليس بائعة شاي".
تعكس قصة آمنة مساراً متكرراً بين الشباب، إذ لم تعد الشهادات الجامعية قادرة على فتح أي أبواب فعلية، بخاصة في ظل التدهور الاقتصادي وتوقف أجهزة الدولة. وفي مناطق النزوح، تزداد حدة المنافسة على الموارد المحدودة، مما يدفع البعض إلى العمل في مهن غير مستقرة، وأحياناً في ظروف غير آمنة.
في ولايات مثل الجزيرة، ونهر النيل، والبحر الأحمر وسنار، استقبلت مدنها مئات الآلاف من النازحين الشباب، مما شكل ضغطاً كبيراً على البنية التحتية، بما فيها المدارس والأسواق ومراكز التدريب. فكثر من هؤلاء، بخاصة النساء، لجأوا إلى الأعمال الهامشية كمصدر دخل، من دون أي حماية قانونية أو اجتماعية.
يقول حسن الطاهر، مسؤول سابق في منظمة "سواعد" التي تعمل في دعم سبل العيش، إن "الوضع الراهن يهدد بتكوين جيل بلا مهنة". توقف التعليم مع النزوح الجماعي خلق حالاً من الشلل التام. فهناك نسبة كبيرة من الشباب فقدوا وظائفهم أو لم يحصلوا على فرصة عمل من الأصل. اليوم كثر يشتغلون بالأجر اليومي أو في أعمال هامشية لا تتطلب أي مؤهل، وهذا يهدد مستقبلهم على المدى البعيد"، ويضيف "غياب سياسات بديلة من الدولة أو حتى من منظمات الإغاثة الدولية لجهة التشغيل والتدريب، يعني أن المشكلة مرشحة للتفاقم، خصوصاً مع استمرار الحرب"، ويتابع "في ظل هذه المعطيات، تتزايد الدعوات بين الشباب إلى التفكير خارج الأطر التقليدية، من خلال المبادرات الفردية، أو التوجه نحو العمل الحر، أو حتى الهجرة خارج السودان، لكن تبقى هذه الخيارات محدودة بقدرة كل فرد على التأقلم مع بيئة غير مستقرة، إذ لا ضمانات ولا مسارات واضحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مقاومة يومية
على رغم قسوة الواقع الذي فرضته الحرب، لم يقف الشباب السوداني مكتوف الأيدي. ففي ظل غياب المؤسسات وتعطل النظام التعليمي والمهني، ظهرت مبادرات فردية وجماعية تسعى إلى التكيف مع المعطيات الجديدة، وتوفير حلول بديلة للحفاظ على الشعور بالجدوى والاستمرار.
في مدينة أم درمان، وعلى رغم التدهور الأمني والانقطاع المتكرر للكهرباء، أطلق هشام السر، خريج كلية "هندسة الحاسوب"، قناة تعليمية على منصتي "تيك توك" و"يوتيوب" يقدم من خلالها دروساً مجانية في البرمجة باللغة العربية المبسطة، إذ يستهدف مشروعه الشباب النازحين أو العاطلين من العمل، محاولاً فتح نافذة على سوق المهارات الرقمية.
يقول هشام "بعد تخرجي، فقدت فرصة العمل بسبب ظروف الحرب، وشعرت أن الوقت يمضي من دون فائدة. فقررت أن أشارك ما تعلمته مع غيري من الشباب من خلال إنشاء قناة لتقديم دروس تقنية بأسلوب بسيط، وأطلقت مبادرة تعليم جماعي عبر البث المباشر، هذا العمل يمنحني شعوراً بأنني أسهم في شيء إيجابي، ولو بصورة محدودة".
في مدينة بورتسودان، أنشأت مجموعة من الشابات النازحات ورشة صغيرة لإعادة تدوير الملابس وتحويلها إلى منتجات قابلة للبيع، مثل الحقائب والأكسسوارات، إذ تعتمد هذه المبادرة التي تديرها خريجات من كليات الاقتصاد والفنون على ماكينة خياطة واحدة وتبرعات من سكان الحي.
تقول سارة محجوب، إحدى المشاركات في المبادرة "في البداية، كان العمل بمثابة محاولة للهرب من الضغط النفسي والشعور بالعجز. لاحقاً، لاحظنا إقبال الجيران على المنتجات، فقررنا تطوير المشروع قليلاً. قد لا نحقق أرباحاً كبيرة، لكننا نشعر بأننا نصنع فرقاً، وهذا يمنحنا طاقة للاستمرار".
من جانبه يرى أستاذ علم النفس الاجتماعي عاصم التجاني أن هذه المبادرات تمثل "الصمود الذاتي للشباب في بيئة منهارة"، ويتابع "الاستجابة للأزمات تختلف من مجتمع لآخر. ففي الحالة السودانية، نلحظ نمطاً من المقاومة اليومية التي لا تقوم على الخطابة أو الاحتجاج، بل على الفعل الهادئ والمستمر. في تقديري أن مثل هذه الممارسات، وإن كانت محدودة النطاق، تسهم في الحفاظ على التوازن النفسي، وتمنع الانزلاق نحو الاستسلام أو الانعزال التام".
ما بعد الحرب
في ظل استمرار الحرب وتعقيد المشهد السياسي وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، باتت خيارات الأجيال الشابة في السودان محصورة في ثلاثة مسارات رئيسة، وهي الهجرة خارج البلاد، أو الانسحاب من الحياة العامة في انتظار ما لا يأتي، أو السعي لإعادة تشكيل الذات والواقع بوسائل محدودة.
يروي بلال محمد نور الدين، شاب في الـ25 من عمره، تجربته مع خيار الهجرة قائلاً "كنت أعمل في إحدى شركات الاتصالات قبل اندلاع الحرب، لكن بعد إغلاق المكتب ونزوح الإدارة، أصبحت عاطلاً من العمل. لم أعد أرى أي مستقبل في السودان، فقررت أن أسلك طريق الهجرة. حاولت الوصول إلى مصر، لكن كلفة السفر كانت مرتفعة جداً، وبعدها فكرت في الهجرة إلى ليبيا، إلا أن الطريق محفوف بالأخطار. فالآن انتظر فرصة للسفر إلى أي دولة أفريقية يمكن أن أبداً فيها من جديد".
أما ريهام عبدالسلام، وهي خريجة كلية الاقتصاد، فتعبر عن اتجاه مغاير تماماً قائلة "لا أملك كلفة الهجرة، ولا أرغب في المخاطرة. في البداية، شعرت باليأس الكامل. كنت أستيقظ يومياً من دون هدف، فقررت الانسحاب من كل شيء بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي، وفي نظري أن هذا الانسحاب لم يكن سلبياً تماماً، بل أعاد لي نوعاً من التوازن، وبدأت أعمل على مشروع صغير لبيع الحلويات من المنزل، ومع قليل من الصبر والإصرار أدرَّ لي عائداً مشجعاً".
لكن وسط هذا الانقسام بين من يحاول الهجرة للخارج، ومن يبتعد عن المشهد الداخلي، تظهر فئة ثالثة من الشباب تعمل على إعادة بناء نفسها من داخل هذا الواقع الهش، بوسائل قد تبدو بسيطة، ولكنها تعكس وعياً بمحدودية الخيارات وإصراراً على إيجاد موطئ قدم.
في هذا السياق يرى المتخصص في علم الاجتماع في جامعة "سنار" خالد بابكر أن الشباب في السودان اليوم "يعيشون حال مفاوضة دائمة مع واقعهم"، ويضيف "هذه الأجيال لا تمتلك ترف الحسم النهائي. فالهجرة ليست متاحة للجميع، والانكفاء ليس دائماً حلاً. لذلك نرى أن كثيرين منهم باتوا يجمعون بين المحاولات الجزئية من مشاريع صغيرة، وتعلم مهارات من بعد، والمساهمة في مبادرات مجتمعية. فكل هذه الأفعال تعبر عن نمط جديد من العيش في ظل اللايقين. وعلى رغم أن هذه الطرق لا تقدم حلولاً جذرية، فإنها تظهر أن جيلاً كاملاً لم يفقد، بالكامل، قدرته على المناورة والبقاء. وفي سياق معقد كالذي تعيشه البلاد، قد يكون هذا الصمود البسيط هو أكثر صور المقاومة حيوية واستمراراً".