ARTICLE AD BOX
يقتبس الروسي كيريل سيريبرينيكوف، في "ليمونوف: القصّة"، المشارك في مسابقة الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ" السينمائي، مؤلَّف الفرنسي إيمانويل كارير، "ليمونوف" (جائزة رونودو الأدبية، 2011): وهو سردٌ روائي يرتكز على تحقيق صحافي مُعمّق في حياة الكاتب السوفييتي إدوارد ليمونوف (1943 ـ 2020)، الذي غدا فرنسياً، ثم مُعارضاً سياسياً روسياً، أنشأ "الحزب الوطني البولشفي" (1993) ذا الميول الفاشية. حياة فوضوية وصاخبة، يبرع سيريبرينيكوف في القبض عليها، لأنّه بالضبط يغمض عيناً على القصة، ليرينا العالم بعينيّ شاعر شاب، هو نفسه كاتب مُثير للجدل، وسياسي مُعارض، من دون أنْ يحسّ بضرورة الحكم على اختياراته. مردُّ تفوّقه قدرته (برهنت عليها أفلامه السابقة) على استثمار الفضاء سينمائياً، لالتقاط الفوضى الداخلية للشخصيات، ولجماليةٍ بمثابة "زوبعة في جمجمة".
حلّ كيريل سيريبرينيكوف ضيفاً على فقرة "حوار مع..."، في الدورة الـ21 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2024) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش".
بهذه المناسبة، حاورته "العربي الجديد" عن رؤيته لهذه الشخصية المثيرة للجدل، والسبيل إلى تفادي الحكم على اختياراتها، وكيفية اشتغاله على الديكور، وتوقّعاته حول استقبال الفيلم في روسيا.
(*) أفلام السيرة الذاتية أكثر رواجاً في السنوات الأخيرة، لكنّ غالبيتها نمطية للغاية، بخلاف معالجتك التي تُبئّر على الإنسان بدل الشخصية التاريخية. هذا شيء أثّر فيّ كثيراً. ما الذي جعلك تقرّر اقتباس كتاب إيمانويل كارير إلى السينما؟
أنت مُحقّ. هذا ليس فيلم سيرة ذاتية، أود القول إنّه عملٌ مقتبس عن رواية إيمانويل كارير، مع لمستي الخاصة. بالمناسبة، البطل ليس إدوارد ليمونوف. إنه شخصيته البديلة، إيدي، المعروف عامةً باسم "الجوكر" الروسي. لم يكن هدفي إظهار حياة هذه الشخصية. في الواقع، ينتهي كتاب إيمانويل كارير قبل وفاة ليمونوف (صدر الكتاب عام 2011، بينما توفّي إدوارد ليمونوف في 17 مارس/آذار 2020 ـ المحرّر). لذا؛ لا يعرض الكتاب حياته كلّها، ما يهمّني الثيمات، وليس مصير الرجل.
(*) لم تتبع السرد الخطي لحياة ليمونوف، مُفضلاً بدلاً من ذلك إعطاء نظرة ثاقبة على ما يدور في رأسه. يُذكّرني هذا بقول لفيكتور هوغو: "عاصفة في جمجمة (Tempete dans un crane)". إنّه شيء يستحضر اشتغالك عامة: الاستبطان، واستكشاف ما يدور في رؤوس شخصياتك.
بالفعل. أحبّ أنْ تدخل الكاميرا إلى رأس الشخصية، لأنّ ذلك يسمح للجمهور بالدخول إلى رأس البطل بدوره. إنّها لعبة خطرة بالتأكيد، لكنّ الأبطال الذين يمكنك الحصول عليهم بهذه الطريقة مختلفون جداً عن بعضهم البعض، ما يتيح للجمهور الشعور بذلك. يمثّل هذا سحراً معيناً، وقوة علاجية حقيقية.
(*) هناك مشاهد يظهر فيها ليمونوف متنقّلاً في ديكورات تستحضر تاريخ أوروبا، وأبرز الأحداث التاريخية التي طبعت العالم. هذه تُذكّر بعض الشيء بعملك، بصفتك فناناً معاصراً، على التنصيبات الفنية. هل كان محتوى هذه المشاهد وتصميم حركاتها مكتوباً سلفاً، أم أنّه نتيجة اشتغال في موقع التصوير؟
عندما كنت أعمل على السيناريو، كتبت "تمضي السنوات". كيف تحقّق هذه الجملة على الشاشة؟ هكذا جاءت فكرة تصميم كوريغرافيا في تنصيبةٍ أعددناها وسط موقع تصوير حقيقي. في مرحلة ما، صار البطل الغنائي، الذي اخترعه ليمونوف، يرى العالم برمّته ديكوراً. كان يعتقد أنّ العالم غير حقيقي، ومن هنا جاءت فكرة التدمير التي أصبحت أكثر أهمية بالنسبة إليه. لا يمكنك تدمير شيء حقيقي. لكنْ، إذا كان ديكوراً، بوسعك أنْ تفعل ذلك. إنّ الطريق إلى تدمير العالم وسيلةٌ، أيضاً، لتقدير العالم. في النهاية، يصل إيدّي إلى إنكار حقيقي لذاته، عندما يبدأ بهدم الجدران، والذهاب إلى الجانب الآخر من العالم لرؤية وجهه الآخر. هذا ما يفعله الأبطال عادة.
(*) في "ليمونوف: القصّة"، لا تصدر أبداً حكماً على ما يفعله ليمونوف، أو على التزاماته السياسية، رغم أنها تثير جدلاً شديداً. كيف استطعت أنْ تنأى بنفسك عن الحكم على التزاماته، وفي الوقت نفسه تظلّ وفياً لتعقيدات الرجل؟
أولاً، لم أرغب في الحكم عليه لأنّنا، كما قلتَ سلفاً، داخل رأس الشخصية الرئيسية. ثانياً، لم أرغب في إضفاء طابع رومانسي، أو المبالغة في إضفاء البطولة عليه. هناك مواقفه السياسية والإنسانية تجاه أوكرانيا، ومن الحرب، ومن العالم الروسي الذي ساهم في خلق تصوّره بشكل أو بآخر. مواقفٌ وطريقة وجود متناقضة للغاية، كان عليَّ أن أجد توازناً من داخلها، لأنني من ناحية لم أرغب في الكذب، ومن ناحية أخرى لم أرغب في إظهار أنْ ما فعله يجب أنْ يُتّبع. ألزمت نفسي إيجاد هذا التوازن الصعب، غير أنّ اندلاع الحرب ألقى ضوءاً مختلفاً على هذه الشخصية بالتأكيد.
أذكّرك أنّ السيناريو كُتب قبل الحرب (الحرب الروسية الأوكرانية، بدءاً من 24 فبراير/شباط 2022) ـ المحرّر)، وأثناء التصوير، قرّرتُ أنّه لم يكن ممكناً إدخال تغيير كبير عليه. غيّرت بعض السطور والكلمات هنا وهناك، لكنّي لم أتمكّن من تغيير كلّ شيء.
آخر ما أردته أنْ أجعل ليمونوف مثالاً يُحتذى به. أحد المواضيع المهمّة بالنسبة إليّ إظهار أنّه كان شخصية ناقمة. إنّه تجسيد للروسي الذي يرغب في الانتقام، لأنّه يشعر بتعرّضه للإهانة. أظهر لنا التاريخ أنّ سبب الحروب يكون غالباً الشعور بالاستياء والنقمة، حاولت أنْ أفهم أسباب الحرب من خلال هذه القصة، وعبر شخصية إدوارد ليمونوف.
(*) يقول الاقتباس الافتتاحي، على لسان ليمونوف: "أنا الماضي، والماضي ليس لديه ما يقوله للحاضر". ربما يبدو ذلك متناقضاً، لأنّ الأفلام تبحث غالباً عن إضاءة الحاضر انطلاقاً من الماضي. بعبارة أخرى، ينبغي أنْ يكون لدى الماضي ما يُلقّنه للحاضر. لماذا اخترت هذا الاقتباس؟
نحن بالضبط إزاء شخصية متناقضة. ليمونوف شخصية تجسّد تناقضاً مطلقاً. في مرحلة شبابه، كان يحتقر سكان موسكو، لكنه بحث عن الذهاب إلى موسكو بكلّ جوارحه. لا يريد أنْ يكون بورجوازياً، لكنّه يتجوّل مُرتدياً بدلة بيضاء أنيقة. كان ثورياً ينادي بالفقر، ويحلم أنْ يكون مليونيراً في الآن نفسه. يجب ألّا ننسى أنّه فنانٌ وشاعر، والشعراء يخلقون لغة متناقضة وغير متوقّعة، تُبرز ببراعة كل التناقضات الكامنة في الحياة.
(*) سؤال أخير عن استقبال الفيلم، الذي أثار جدلاً كثيراً عند عرضه في مهرجان "كانّ". أتصوّر أنّه في روسيا سيثير مزيداً من الجدل، لأنّه يدور حول شخصية لا تحظى بالإجماع هناك. برأيك، كيف سيُستقبل "ليمونوف: القصّة" في روسيا؟
في الواقع، ليس لدي أيّ فكرة عن كيفية استقباله هناك. ليمونوف ليس معروفاً كثيراً في أوروبا. قليلون يعرفونه بفضل رواية إيمانويل كارير أساساً. هذا ما سيتفاعل وفقه الناس. أما في روسيا، فليمونوف شخصية مُقدّسة. قرأ الناس هناك كتبه ومقالاته، وكل ذلك تحوّل على وقع تفاعل كتاباته مع الأحداث المعاصرة والحياة الواقعية. بالنسبة إليهم، سيكون فيلماً غريباً ربما، وربما يعتبرونه عدواً. ما فعلته نزع القداسة عن هذه الشخصية. سيكون مستحيلاً مثلاً عرض المشهد مع الرجل ذي البشرة السوداء، بسبب القوانين ضدّ المثليين هناك. لا يمكن التنبؤ بالكثير.
لكنْ، ينبغي القول إنّه مشروع محفوف بالمخاطر، ومُعقّد للغاية، منذ البداية. أذكّرك أنّه فيلم إيطالي، لأنّ إنتاجه إيطالي. الرواية فرنسية، والمخرج روسي، والفيلم ناطقٌ باللغة الإنكليزية. إنّه شيء مُفاجئ، ومغامرة مثيرة للاهتمام في آن واحد.
