ARTICLE AD BOX
تواجه غزة اليوم تحديات جسيمة تهدد معالمها الأثرية وتراثها الثقافي، إذ عرّضت حرب الإبادة الإسرائيلية والحصار المستمر المواقع الأثرية والمجموعات التاريخية للخطر، بل وفقد بعضها بالكامل. المعرض الذي يستضيفه معهد العالم العربي في باريس تحت عنوان "كنوز غزة: 5000 عام من التاريخ" يسلط الضوء على هذا الجانب. يتواصل المعرض حتى الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ويقدّم لمحة عميقة عن تاريخ غزة الأثري الممتد عبر آلاف السنين، ويُبرز ما كانت عليه هذه المدينة من ازدهار ثقافي وتجاري في فترات متعددة من تاريخها.
يضم المعرض مجموعة من القطع التي نُقلت إلى الخارج في ظروف استثنائية. هذه المجموعة، المحفوظة منذ سنوات في جنيف، تشمل قطعاً تعود إلى فترات متعددة من تاريخ غزة، من العصر البرونزي وحتى العهد العثماني. من بين المعروضات جرار فخارية كانت تُستخدم لنقل النبيذ الغزي إلى دول البحر المتوسط، ومصابيح زيتية رومانية، وفسيفساء كانت تزين أرضية كنيسة بيزنطية، وتمثال رخامي نادر للإلهة اليونانية أفروديت. كل قطعة تحكي جزءاً من تاريخ طويل، يعكس عمق التبادل الثقافي والاقتصادي الذي شهدته المنطقة، ويؤكد أن غزة لم تكن يومًا هامشية، بل كانت فاعلة ومزدهرة في محيطها الإقليمي والدولي. المعرض لا يكتفي بتقديم الماضي فحسب، بل يربطه بواقع حاضر مأزوم، إذ تُطرح هنا تساؤلات محورية حول مصير هذا التراث في ظل الإبادة الإسرائيلية الممتدة. كيف يمكن حفظ ما تبقى، واستعادته، وتمكين الفلسطينيين من الحفاظ على ذاكرتهم الثقافية وسط هذه الظروف الصعبة؟ هذه الأسئلة تشكل الخلفية الإنسانية للمعرض، الذي يتجاوز العرض الفني إلى طرح قضايا سياسية وثقافية معقدة ترتبط بحق الشعوب في الحفاظ على تاريخها.
القطع الأثرية المعروضة هنا لم تأتِ مباشرة من قطاع غزة، بل وصلت إلى باريس عبر رحلة طويلة بدأت قبل ما يقارب عقدين من الزمن. عام 2006، نُقلت مجموعة كبيرة من الآثار الغزية إلى مدينة جنيف السويسرية، استعداداً لإقامة معرض دولي بمشاركة رسمية من السلطة الوطنية الفلسطينية، وكان الهدف الأساسي حينها التمهيد لإنشاء متحف أثري دائم داخل غزة. لكن الأحداث السياسية المتسارعة وقتها حالت دون عودة هذه الآثار إلى موطنها. أُودعت تلك القطع في مستودعات مؤمّنة في متحف الفن والتاريخ في جنيف وظلت هناك لسنوات، بينما كانت غزة تواجه دماراً متصاعداً بسبب العدوان الإسرائيلي المتكرر. ومع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن وجود هذه الآثار خارج القطاع هو ما حماها من المصير الذي لحق بكثير من المعالم الأثرية هناك، والتي تضررت أو دُمرت بالكامل نتيجة للعدوان.
أكثر من نصف المعروضات الحالية تعود في الأصل إلى مجموعة خاصة أنشأها رجل الأعمال الفلسطيني جودت الخضري، الذي كان من أبرز المهتمين بجمع وحفظ القطع الأثرية المكتشفة في غزة. الخضري، المعروف بدوره في مقاومة تهريب الآثار ومنع بيعها في الأسواق الدولية، أسّس متحفاً خاصاً في غزة يحتوي على مئات القطع، قبل أن يتعرض المتحف ومقر إقامته للتدمير بعد استهداف حي الشيخ رضوان حيث يقع. ومع ذلك، فإن الجزء الذي أُرسل إلى الخارج آنذاك أصبح اليوم بمثابة أرشيف حي لذاكرة حضارية كادت أن تضيع. المعرض يقدم أيضاً مجموعة أخرى من المكتشفات التي نتجت عن عمليات تنقيب أثرية شاركت فيها فرق فلسطينية وفرنسية منذ منتصف التسعينيات، وتحديداً بعد اتفاقيات أوسلو.
في سياق الحرب الحالية على غزة يبدو الحديث عن التراث الثقافي وكأنه ترف، لكنه في الواقع يُعدّ جزءاً جوهرياً من الكفاح من أجل الهوية والبقاء. تقول القيّمة على المعرض، إلودي بوفار، إن هذه المبادرة تمثل شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية، وتهدف إلى الحفاظ على الذاكرة الجمعية، وإبراز الجانب الإنساني لتاريخ شعب يعاني من فقدان متواصل.
يتضمن المعرض صوراً نادرة من أوائل القرن العشرين، وخرائط توضح حجم الدمار الذي طاول المواقع الأثرية أخيراً، بالإضافة إلى توثيق أعدته منظمة يونسكو حول تضرر عشرات المواقع في غزة بسبب القصف، بما فيها مساجد تاريخية وكنائس ومتاحف. يسلط المعرض أيضاً الضوء على مبادرة المتحف الافتراضي، التي وُلدت من الحاجة إلى حماية التراث الفلسطيني في ظل غياب مؤسسات قادرة على القيام بذلك داخل الأراضي الفلسطينية.
تهدف هذه المبادرة إلى تقديم نسخة رقمية مستدامة من التراث المهدد، وتُعد امتداداً طبيعياً لمعرض "ما الذي تقدمه فلسطين للعالم؟" الذي نظمه المعهد سابقاً وضمّ أعمالاً لفنانين فلسطينيين من الداخل والشتات، بعضهم استشهد قبل انتهاء المعرض بسبب القصف الإسرائيلي. هذا المعرض، المنظم بالشراكة بين معهد العالم العربي ووزارة السياحة والآثار الفلسطينية ومتحف جنيف، لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة مفتوحة حول حق الشعوب في الحفاظ على تراثها، وحول مسؤولية المجتمع الدولي في حماية الموروث الثقافي أثناء النزاعات. إنه دعوة للتفكير في كيفية دعم هذا الحق في ظل ظروف خطيرة، تضع التراث في موضع الهشاشة والتهديد المستمر. إن وجود هذه الآثار في الخارج قد أنقذها من الدمار، لكنه لا يعني أن مكانها الطبيعي هو خارج غزة. فالهدف النهائي كما تقول قيمة المعرض هو أن تعود هذه الكنوز إلى أرضها الأصلية، حين تتوفر الظروف الآمنة لذلك.
