ARTICLE AD BOX
يعاني العالَمُ فصاماً أخلاقيّاً شاملاً، قوامُهُ قدرةٌ عجيبة على التعايش مع التناقضات من دون أيّ إحساسٍ بالذنب. لا غرابة من ثمَّ في أن يجرؤ مُجرمُ حربٍ، بشهادة محكمة الجنايات الدوليّة، مثل نتنياهو، على دعوة قطر إلى الاختيار بين التحضّر الذي يمثّله والهمجيّة التي يمثّلها، في نظره، الفلسطينيّون! ولمَ الاستغراب؟ لقد تَعوّدَ الوعيُ على استهلاك الغرابة حدّ التطبيع مع اللا مُتوقّع، وتذويبه في ما هو مألوف. حدث ذلك مع الهمجيّة النازيّة، وها هو يتكرّر مع الصهيونيّة العالميّة المتوحّشة.
اعتُبِرَ هتلر همجيًّا لأنّه انهزم، أمّا همجُ العصر فإنّهم ضحاياه الذين ورثوه ويُخيّلُ إليهم أنّهم المنتصرون! "لقد تعلّمَ الصهاينةُ درساً جيِّداً من النازيّين. بل تكشف معاملتهم الأخلاقيّة البغيضة للفلسطينيّين، ومحاولاتهم تدمير المجتمع الفلسطينيّ داخل الأراضي المحتلّة، عن كونهم نازيّين ذوي لِحًى وقُبّعاتٍ سوداء". لم يقل فلسطينيٌّ هذا الكلام، بل قاله نورمان فينكلشتاين (1953)، أستاذ العلوم السياسيّة الأميركيّ اليهوديّ، ذو الأبوين الناجيين من المحرقة النازيّة.
السؤال هنا: هل يُعقل أن يجد العالم كلّ هذه الصعوبة في الفرز بين التحضّر والهمجيّة؟ كلّا. لا صعوبة في الأمر. إنّه مشهد "سيمولاكر" بين الجلّاد الهمجيّ الذي يرتدي ربطة عنق ويقول "أنا أقتلُ، إذنْ أنا متحضّر"، وضحيّته التي لا يسمح لها حتى بادّعاء التحضّر، لأنّها ليست على الجانب الصحيح من التاريخ! ولأنّها لا تستطيع أن تَقتل وهي تبتسم ولا تريد أن تموت وهي تستسلم! وبين هذا وذاك، يواصل الإعلام الإمبراطوري نقل المشهد على قياس السرديّات. وعلى المرء أن يتجنّب إطلاق صفة العبث على هذا الذي يحدث. العبثُ سكتةٌ عقليّة، عطالةٌ للسببيّات، شعورٌ بأنّ الوجود غير منطقيّ ولا يمكن توقّعه، لكنّ هذا الذي يحدث تَوقّعَهُ الجميع منذ عقود طويلة، وتواطأ عليه الجميع، ولم يغب عن إدراك أحد، اللهمّ عن بعض ضحاياه.
في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وأمام أكثر من ألف صحافي فرنسي وأجنبي اجتمعوا في قصر الإليزيه، قال الرئيس الفرنسيّ شارل ديغول، معلّقاً على الوضع بعد حرب الأيّام الستّة، ما معناه أنّ اليهود استولوا على أراضٍ في ظروف يصعب تبريرها، وأنّ من شأن إقامتهم في بيئة رافضة أن تؤدّي إلى صراع مستمرّ. وعبّر عن خشيته من أن تتحرّك فيهم الرغبة في الهيمنة والتوسّع... مضيفًا أنّهم باتوا يمارسون الاحتلال في الأراضي التي استحوذوا عليها، مع ما يعنيه الاحتلال من قمع وقهر وطرد، وما يصاحب ذلك من ظهور مقاومةٍ يصفها الاحتلال بالإرهاب. وقال إنّ الحلّ الوحيد للخروج من هذه الحلقة المفرغة يتمثّل في إخلاء الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بالقوة.
هو ذا إذنْ أحدُ عرّابي الغرب يعترف منذ 1967 بخفايا الجريمة، وبتفاصيل إنتاجها، مشيراً إلى إدراكه مآلاتها. كلّ شيء واضح منذ البداية. وليس ما يحدُث اليوم سوى نتيجة حتميّة لمنظومةٍ "تمأسست" جيلاً بعد جيل، وأنتجت جرائمها ومبرّراتها وتقنيات التستّر عليها وإغراءات الاشتراك فيها. إنّه زمن ذهاب الإمبراطوريّة إلى أقاصيها الطبيعيّة، المنتمية إلى شجرتها السلاليّة والناشئة من داخلها. ولا بدّ من مساعدة المنهار فيها على الانهيار. لذلك، لم يعد جائزاً الحديث عن "عبثيّة الأحداث"، أو التعلّل بمفاهيم متهافتة من نوع "لم نكن نعلم!"، تلك كانت تعلّة الجميع منذ إبادة الهنود الحمر. إلّا أنّه لم يعد ممكنًا اليوم تصديق أيّ نوع من الاستغراب ولا أيّ نوع من "إنكار العلم بالجريمة". ليس من صمت إلّا وهو تواطؤ، وليس من إشاحة إلّا وهي مشاركة في كلّ ما يحدث.
المنظومة التي أنجبت هتلر هي التي أنجبت ورثاءه. وها نحن نرى ضحايا أوشفيتز ينهجون النهج نفسه في التعامل مع ضحاياهم. لذلك قد يكون المفكّر الروماني إيميل سيوران (1911 - 1995) أخطأ المرمى، حين قال إنّ الطغاة يتحوّلون إلى رجال طيّبين ما إن يشبعوا شراستهم. كلّا. لم يحدُث ذلك يا إيميل. لكنّك لم تجانب الصواب في الجزء المتبقّي من شذرتك: "كان يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها لولا غيرةُ العبيد ورغبتُهم في إشباع شراستهم هم أيضاً. إنّ طموح الخروف إلى أن يتقمّص دور الذئب هو باعثُ أغلب الأحداث. كُلُّ من ليس له نابٌ يحلم به، ويريد أن يفترس هو أيضاً".
