ARTICLE AD BOX
رشحتْ أخيراً في سطح الفضاء الافتراضي نقاشاتٌ بين نُخب تونسية حزبية وفكرية عن ضرورة المصالحة بين التيّارات السياسية، إسلاميين وليبراليين ويساريين، خاصّة الواقف منها في طرفي نقيض من النظام القائم، ودعوات إلى الحوار بناءً على التمسّك بالديمقراطية، ومراجعات تقدّمها جميع الأطراف. نشرتْ شخصياتٌ علمانية ومحافظة نصوصاً تدعو إلى النظر في نتائج السلوك الإقصائي الذي انتهجته بعض الأحزاب والشخصيات خلال عشرية الديمقراطية، وانعكاسات ذلك على الوضع الحقوقي المدني في البلاد، وانتكاسة مسار الانتقال الديمقراطي، مشيرةً هذه الجهات، في الوقت نفسه، إلى أخطاء الإسلاميين خلال سنوات مشاركتهم في الحكم، من جهة الخطاب أو الممارسة السياسية.
تزامنت بواكير هذا النقاش المهمّ مع إصدار الوظيفة القضائية في تونس (كما ينصّ على تعريفها دستور 2022) أحكاماً مجحفةً، بعضها بعشرات الأعوام، ضدّ معارضين من ألوان فكرية مختلفة، وسط إجماع حقوقي على غياب ظروف المحاكمات العادلة وشروطها، كذلك إيقاف المحامي والقاضي الإداري السابق، أحمد صواب، المعروف بنزاهته، بسبب تصريح أدلى به في إثر الجلسة المخصّصة للحكم على المتّهمين في ما تسمّى قضية التآمر على أمن الدولة، إذ وصّف الوضعية المأساوية للقضاة والعدالة في تونس تحت حكم الرئيس قيس سعيّد.
هناك أسباب عدّة تفرض نقاشاً معمّقاً في تونس عن علاقة مكوّنات المشهد السياسي والفكري بعضها ببعض، وأزمة الاعتراف والتعايش، وحدود التنافس والصراع، الذي لطالما يتحوّل محارقَ وحفلاتِ شواء تقدّم فيها الخصوم (في مقدّمهم الإسلاميون) قرابين لذئاب السلطة المتعطّشة للدم، وينقلب الفعل السياسي من سلوك مدني حضاري للمشاركة في النهوض بواقع وطني، إلى تراجيديا إنسانية وقصص مليئة بالظلم والقهر والتشفّي.
جزء كبير من الهياكل المدنية، التي انتعش بعضها في الديمقراطية، وأنتج بعضها الآخر السياق الديمقراطي، لم يتوانَ عن تسميم الفضاء العام، والتحشيد ضدّ أطراف سياسية بعينها
أولاً، يمثّل فشل خيار التنافر والتضادّ والإقصاء، الذي انتهجته فئة واسعة مع النُّخب التونسية "العلمانية" ضدّ التيّارات المحافظة، سبباً رئيساً للتوقّف عن هذا النهج، ومدعاةً للمراجعة، ولا سيّما بعد صعود نجم الإسلاميين إبّان ثورة 2011/2010، على عكس قراءات (وتنبّؤات) روّاد التيّارات الحداثية القائلة بفرضية تراجع حضور عامل الدين في مجالَي السياسة والمجتمع بتقدّم مسارات التحديث والعقلنة، ورغم الجهود الحثيثة لاستئصال أنصار هذا التيّار، ثمّ بعد أن سبّب خطاب وسلوك الشحن والتحريض والكراهية وأد تجربة وطنية ديمقراطية، وتعبيد الطريق لحكم فردي شمولي أمني أخطر في جوهره من بعبع الإسلام السياسي. فهل يعتذر التيّار العلماني في تونس عن أخطائه الجسيمة في حقّ الديمقراطية، وعن لعب بعض مكوّناته أدواراً وظيفيةً مشبوهةً؟
ثانياً، عجز الإسلاميون (حركة النهضة) خلال فترة حكمهم، أو فترة مشاركتهم في السلطة منذ 2011، عن تحصين الحالة الديمقراطية، وترجمتها مكاسبَ ومصالحَ اقتصاديةً واجتماعيةً عامّةً، وإنتاج حاضنة شعبية للتجربة الديمقراطية، أوسع من بعض النُّخب المعزولة، إلى جانب تعطّل آليات التغيير والإصلاح داخل هذا التنظيم، على أساس الرؤية المواطنية المدنية وفلسفة التوافق والمصالحة الوطنية، التي اشتغل عليها زعيم الحركة راشد الغنّوشي سنواتٍ... جميع هذه الأسباب، وأخرى، ساهمت في انحسار الحركة الإسلامية ومحاصرتها بتناقضات خطابها أحياناً، وبضعف شبكتها العلائقية الصلبة خاصّة مع المنتظم الأهلي... هذا كلّه يزيد من الحاجة إلى التفكير والمراجعات والحوار. فهل تقرّ حركة النهضة بأخطائها، وتقف عند لحظات من التكبّر والتعالي في ممارستها السياسية تخفي خلفها خلافات وتصدّعات تنظيمية، أسفرت عن خيارات أقلّ ما توصف به أنها كارثية، مثل لحظة اختيار المرشّح حبيب الجملي لتشكيل أول حكومة إبّان انتخابات 2019؟
ثالثاً، ساهمت الجمعيات والمنظّمات في تونس، إلى حدّ كبير، في تجربة الانتقال الديمقراطي، فتقلّدت موقع الشريك الرئيس للأحزاب في إدارة الشأن العام مجالاً أوسع من السلطة التي تمثّلها أجهزة الدولة وبيروقراطيتها، فكانت قوّة اقتراح لمشاريع القوانين، ورقيباً على السلطة والمسؤولين، ورافداً لمعاضدة جهود الدولة في التنمية، وهياكل تنظيمية نقابية، حقوقية ومدنية، فكان هذا المجتمع الأهلي طيلة عشرية الديمقراطية كما لم يكن في تاريخ تونس من جهة الموقع والأهمية والقدرة على الفعل، ما أهّل الرباعي المتكوّن من منظّمات الشغل والأعراف والفلاحين والمحامين للإشراف على حوار وطني سياسي أفضى إلى انتقال سلمي للسلطة بداية عام 2014، ونيل جائزة نوبل للسلام.
لكنّ جزءاً كبيراً من هذه الهياكل المدنية، التي انتعش بعضها في الديمقراطية، وأنتج بعضها الآخر السياق الديمقراطي، لم يتوانَ عن تسميم الفضاء العام، والتحشيد ضدّ أطراف سياسية بعينها، بأجندات أيديولوجية مكشوفة، وممارسة البلطجة النقابية، والوقوف حجر عثرة أمام ممارسة الدولة مهامها وصلاحياتها، ما سبّب شللاً في عديد القطاعات الحيوية مثل إنتاج الفوسفات، إلى جانب التمترس خلف العمل النقابي لاستهداف المسؤولين وإفشال إدارة عدّة مؤسّسات مثل ما حدث مع الشركة التونسية للطيران. بعد ذلك، تنكّرت هذه الأجهزة للتجربة التونسية وأدارت لها ظهرها، رغم أنها كانت أكبر المستفيدين منها، ما يجعلنا نتساءل عن امتلاكها حدّاً أدنى من الشجاعة لتعترف بأدوار التخريب المادّي والرمزي والترذيل، التي انتهجتها ضدّ حكومات شرعية وسط معادلة انتقالية فرضت تغوّل الشعب على الدولة، على عكس العقود الماضية؟
عجز الإسلاميون خلال فترة حكمهم في تونس عن تحصين الحالة الديمقراطية، وترجمتها مكاسبَ ومصالحَ اقتصاديةً واجتماعيةً عامّةً
رابعاً، كان للإعلام ونخبه وفاعليه، دور محوري خلال تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، إذ شهد على وقع الحرّيات طفرة في التنوع والإنتاج والتأثير، لكنّه تحوّل من سلطة رابعة تسهم في بناء القيم المدنية والوعي المواطني وفضاء للحوار والتعدد، إلى أداة تلاعب بالعقول، وأصبحت منصّاته المتعدّدة شريكةً في حملات التشويه والتحريف وتزييف الوعي، وبعضها غرفاً خلفية لدكاكين حزبية ليس لها وزن انتخابي، ويجدُر التذكير أيضاً بخيار حركة النهضة الخاطئ في تناولها المسألة الإعلامية منذ فجر التجربة الانتقالية، إذ انصرفت عن جهود إصلاح مؤسّسات الإعلام العمومي التابعة للدولة وترتيب الفضاء الإعلامي الخاصّ بما يحتاج إليه من تشريعات تضمن استقلاليته ومهنيته تحت رقابة الهيئات المتخصّصة والعدالة، إلى التوجّه نحو ما يسمّى بـ"الإعلام البديل"، الذي لم يكن إلا أداةً سياسيةً إضافيةً في وجه الإعلام الوظيفي. هل تعتذر النُّخب الإعلامية في تونس (عموماً) عن خيانتها رسالةَ الصحافة والإعلام، وتحوّل جزء كبير منهم إلى مأجورين وأبواق للأحزاب وأجندات أيديولوجية تحريضية وإقصائية؟
كانت عشرية الديمقراطية في تونس امتحاناً جادّاً وعسيراً للنُّخب التونسية بجميع انتماءاتها ومواقعها ورتبها، امتحان لم ينجح فيه سوى عدد قليل من الفاعلين الملتزمين بقيم المواطنة والحقوق الإنسانية، أثبتوا ذلك في منعرجات حاسمة عرفتها البلاد خلال أزمة 2013، بعيد اغتيال القياديَّين الحزبيَّين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وبعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي (رحمهم الله جميعاً!)، ثمّ بعد انقلاب 25 يوليو/تمّوز (2021)، واجتهدوا في فصل قيمهم الديمقراطية الثابتة عن انفعالاتهم السياسية المتغيّرة، ولم تدفع هذه الاختبارات الصعبة العلمانيين منهم، بدعوى رهاب الإسلام السياسي، إلى الدعوة إلى عسكرة السلطة مثلاً، كما لم توقع الإسلاميين منهم في فخّ التطرّف أو التنكّر للديمقراطية آليةً لتنظيم التنوّع والاختلاف داخل الدولة والمجتمع.
ظلّت مبادرات تقريب النظر نشازاً في مشهد وطني يطغى عليه خطاب الكراهية والتخوين والتمييز العنصري
في مقابل ذلك، لن يُغلق التاريخ أبوابه أمام فرص العودة إلى إعمال العقل وتغليب المصالح الكُبرى في السياسة والشأن العام على نزوات الأفراد أو شوفينية بعض المجموعات، إذا استطاعت النُّخب التونسية الاعتراف بأخطائها أولاً، وتقديمها جميعاً مراجعات تكون مرتكزاً لإعادة بناء الثقة فيما بينهم بدايةً، ثمّ مع الشعب، ويبقى ما دون ذلك من مطالبة طرف بعينه تقديم مراجعاته وتحميله مسؤولية الانتكاسة، لا يزيد عن حالة إنكار وتكبّر على معطيات الواقع، وتهرّباً من الوقوف أمام مرآة الأحداث.
كانت المبادرات المحتشمة أخيراً لتقريب وجهات النظر والتقييم الجزئي للأخطاء المشتركة في المرحلة السابقة، إيحاءً بعودة جزئية إلى العقل على حساب الغريزة، لكنّها ظلّت نشازاً في مشهد وطني يطغى عليه خطاب الكراهية والتخوين والتمييز العنصري، وتواصل الاصطفافات الأيديولوجية داخل محور المعارضة، التي رغم اكتوائها جميعاً بنار الإقصاء والتهميش من طرف السلطة، لا تزال بعضها تمارس الإقصاء والتمييز الحقوقي تجاه بعض.
