في ذكرى النكبة... ماذا تبقّى من حلّ الدولتَين؟

3 weeks ago 11
ARTICLE AD BOX

في الخامس عشر من مايو/ أيّار من كلّ عام، يحيي الفلسطينيون ذكرى نكبتهم، بينما تحتفل إسرائيل بما تسمّيه "عيد الاستقلال". لكن من كان يحتلّها؟ وهل كانت هناك أساساً دولة اسمها إسرائيل قبل عام 1948، ليقال إنها استقلّت؟ يترافق إحياء ذكرى النكبة هذا العام مع ما نشهده منذ 7 أكتوبر (2023)، من حرب إبادة جماعية ترتكبها إسرائيل بحقّ قطاع غزّة، يتابع العالم فصولها على الهواء مباشرةً ببلادة منقطعة النظير، وراح ضحيتها (حتى الآن) أكثر من 52 ألف إنسان، فضلاً عن تدمير البيوت والمدارس والمستشفيات، والتهجير والتجويع. وتترافق أيضاً مع دعوات، تفوح منها رائحة العنصرية والفاشية، يطلقها بين حين وآخر، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لطرد سكّان قطاع غزّة وتحويله "ريفييرا الشرق الأوسط".

ثمّة روايتان متناقضتان لما حصل في فلسطين قبل 77 عاماً. رواية صهيونية تقول إن إسرائيل هزمت الجيوش العربية في حرب 1948، وإن الفلسطينيين بإرادتهم، ومن دون عنف أو إكراه، اختاروا مغادرة فلسطين، وبذلك تحقّقت المقولة الصهيونية إن فلسطين "أرض بلا شعب" يجب أن تُعطى لـ"شعب بلا أرض". أمّا الرواية الفلسطينية فتقول إن فلسطين هي أرض الفلسطينيين التي عاشوا فيها منذ آلاف السنين، وما جرى في 1948 أن العصابات الصهيونية والمستوطنين الذين أتوا من كل بقاع الأرض، وبدعم من القوى المهيمنة على العالم حينها، ارتكبوا بحقّ الفلسطينيين المجازر، ومارسوا ضدّهم القتل والتدمير والتطهير العرقي، واحتلّوا أرضهم، وهجّروا أكثر من 800 ألف فلسطيني من بيوتهم وقراهم ومدنهم. لم تصمد طويلاً الرواية الصهيونية عن الخروج الطوعي للفلسطينيين من بلادهم، ليس نتيجةَ ما عايشه الفلسطينيون ونقلوه ووثّقوه بأنفسهم (وهو صحيح)، بل أيضاً بفعل ما كشفه العديد من المؤرّخين الإسرائيليين. في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 2007)، يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه: "التطهير العرقي الذي حدث في فلسطين يجب أن يتجذّر في ذاكرتنا ووعينا بصفته جريمةً ضدّ الإنسانية. وإن مرتكبيه هنا ليسوا مجهولين، إنهم مجموعة محددة من الأشخاص: أبطال حرب الاستقلال اليهودية، وأسماؤهم مألوفة جدّاً لدى معظم القرّاء، والقائمة تبدأ بزعيم الحركة الصهيونية غير المنازع في زعامته، ديفيد بن غوريون، الذي نُوقشت في منزله الخاص وحُبكت نهائياً، الفصول الأولى والأخيرة في قصّة التطهير العرقي".

بعد مرور 77 عاماً على تهجيرهم، وصل عدد اللاجئين الفلسطينيين في العالم، خارج فلسطين، إلى نحو ستة ملايين. وقد أكّدت قرارات الأمم المتحدة، ومنها على سبيل المثال القرار 194 الذي صدر عام 1948، وجوب السماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، إلا أن إسرائيل رفضت (وما زالت) تطبيق تلك القرارات. في أعقاب حرب حزيران (1967)، أحكمت إسرائيل سيطرتها على كامل فلسطين التاريخية. منذ ذلك الحين، صدرت من الأمم المتحدة عشرات القرارات التي تنصّ على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها عام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. لكن إسرائيل (كعادتها) ترفض تطبيق تلك القرارات. تفيد أحدث الإحصاءات بأن هناك نحو ستة ملايين إسرائيلي ومليوني فلسطيني يعيشون في الأراضي التي احتُلّت عام 1948، بينما يعيش في الأراضي التي احتُلّت عام 1967 نحو خمسة ملايين فلسطيني، ومليون مستوطن إسرائيلي. أي أن نصف السكّان الذين يعيشون في أرض فلسطين التاريخية فلسطينيون، ونصفهم الآخر إسرائيليون.

ما يبحث عنه الإسرائيليون، ويسعون إليه اليوم هو استسلام الفلسطينيين، وتنازلهم عن جميع حقوقهم، من دون مقابل

خيار حلّ الدولتَين، فلسطينية وإسرائيلية، الذي تتبنّاه الأسرة الدولية حلّاً لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، ربّما لم يعد قابلاً للتحقّق. ليس لأن إسرائيل ترفض هذا الحلّ ولا تلتزم بتطبيق قرارات الشرعية الدولية التي نصّت عليه وحسب، بل أيضاً لأن التغيّرات الديمغرافية التي حصلت منذ 77 عاماً، وتغلغل المستوطنات الإسرائيلية في مدن الضفة الغربية، وإقامة جدار الفصل العنصري، وتدمير قطاع غزّة وتحويله مكاناً غير قابل للعيش، واحتلال إسرائيل أجزاء واسعة منه... جعلت من إمكانية تطبيقه أمراً بالغ التعقيد، إن لم نقل مستحيلاً. أكثر من ذلك، فقد أدّى العدوان الإسرائيلي على غزّة وتداعياته، لا سيّما هزيمة حزب الله وتراجع النفوذ الإيراني وسقوط نظام الأسد، إلى تنامي مشاعر التفوّق والغطرسة لدى قادة إسرائيل، بالتزامن مع هيمنة خطاب اليمين المتطرّف، الأمر الذي دفع إسرائيل للقيام بسلسلة من الاعتداءات على سورية، نتج منها تدمير معظم قدراتها العسكرية، واحتلال أراضٍ جديدة فيها.

يقول لسان حال قادة إسرائيل هذه الأيّام إنه، في ظلّ حالة الضعف العربي، والفلسطيني ضمناً، وما آلت إليه أوضاع المنطقة، وبعدما أجهضنا اتفاق أوسلو (1993) وجرّدنا السلطة الفلسطينية في رام الله من كلّ سلطة، ووجّهنا ضربةً قاصمةً لحركة حماس، وأضعفنا سلطتها في غزّة، وفي ظلّ وجود دونالد ترامب، الداعم لإسرائيل بلا حدود، في رأس الإدارة الأميركية، ما الذي يجبرنا على القبول بتسوية على أساس حلّ الدولتَين؟

تغلغل المستوطنات في الضفة، وجدار الفصل العنصري، وتدمير قطاع غزّة واحتلاله، جعلت حلّ الدولتين أمراً بالغ التعقيد

يبدو جلياً أن ما يبحث عنه الإسرائيليون، ويسعون إليه اليوم هو استسلام الفلسطينيين، وتنازلهم عن جميع حقوقهم، من دون مقابل. حسناً، إذا كان هذا ما يفكّر فيه قادة إسرائيل، فما الذي تفكّر فيه القوى الفلسطينية وقياداتها؟ أما آن الأوان لهذه القوى، المهادنة منها والمغامرة، كي تقوم بمراجعة نقدية حقيقية لخطابها وسياساتها وآليات عملها، وصولاً إلى صياغة استراتيجية كفاحية، تُبنى على أسس وطنية ديمقراطية، توحّد طاقات الفلسطينيين ولا تهدرها، تتمسّك بحقوقهم ولا تفرّط بها، تحرص على حياتهم ولا تسترخصها؟ ما الذي تفكّر فيه الأنظمة العربية وقادتها؟ هل يكسرون قواعد اللعبة، فيتّخذون موقفاً موحّداً صلباً في مواجهة إسرائيل ومخطّطاتها، أم يكتفون كعادتهم بعقد الاجتماعات وإلقاء الخطابات وإطلاق الشعارات، أم سيتنافسون في ما بينهم على تقديم المزيد من التنازلات؟

حقيقةً، ليس هناك ما يدعو إلى التفاؤل سوى ما يقوله التاريخ من أن الفلسطينيين، وعلى مدى صراعهم مع المشروع الصهيوني وإسرائيل، ورغم كلّ ما تعرّضوا له من آلام وخذلان، لم يرضخوا ولم يستسلموا، وبقوا متمسّكين بحقوقهم. وأنهم بعد كلّ انتكاسة، ينهضون من جديد. فلنردّد مع سعد الله ونوس: "إننا محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".

Read Entire Article