ARTICLE AD BOX
شهدت فرنسا قبل أيام جريمةً شنعاءَ راحت ضحيّتها رعيةٌ من أصول مالية داخل مسجد. ولم تكن الجريمة الوحيدة، بل تزامنت مع عمليّة قتل داخل ثانوية تكتّمت عليها وسائل الإعلام، وكانت الضحية فتاةً محجبّةً من أصول مغاربية. تأتي هذه الجرائم، زماناً ومكاناً، على خلفيّة حملة كبيرة ضدّ الإسلام والمهاجرين، ومحاربة للمغاربيين بصفة خاصّة، يقودها سياسيون ومثقّفون وإعلاميون، في إطار حملة انتخابية رئاسية مبكّرة (ستجري الرئاسيات في العام 2027)، ولكن ضمن منظومة تحوّل أيديولوجي وسياسي تعيشه فرنسا، يؤدّي يوماً بعد يوم إلى كوارث بحجم ما نراه من جرائم تُغذّيها تلك الحملة، بل ما يأتي في إثرها من جدال أكثر إيلاماً للجاليتين المغاربية والمسلمة، إذ إنّه يرفض الخوض في توجيه الاتّهام باسم معاداة الإسلام أو الإسلاموفوبيا. وتعتبر اللغة الرمزية حيويةً في هذا المقام، إذ إنّها تستدعي استخدام مفاهيمَ بعينها بالنظر إلى دلالاتها الرمزية، من ناحية، وللتّداعيات على المستويين القانوني والسياسي، من ناحية أخرى. ولهذا، يُفضِّل الجميع مفهوم العنصرية بِعدّه، ليس موقفاً سياسياً، بل أيديولوجياً، وتمثُّلاته في الأذهان بعيدة من أن يكون المشرّع قد أدخله ضمن المنظومة القانونية، وكيّفه جريمةً يُعاقَب بموجبها مرتكبُها.
هذه هي الأخبار، فكيف تمّ تناولها إعلامياً؟ وما هي الرمزية التي تحملها لغة الخطاب هنا، في هذه الحالة بالذّات؟... بمتابعة نشرات الأخبار، وطبيعة الضيوف المتحدّثين، والخبراء الذين شاركوا في التحليل، وقراءة قصاصات بعض الصحف، نتوصّل إلى نتائج مهولة. فكلّ اللغة، بمفرداتها المستخدمة في وصف الحادثتَين، لم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى السببية بين الخطاب الإعلامي والإسلاموفوبيا. وتشير لغة أغلب المتدخّلين إلى اعتبار أنّ ما حدث ضرب من الجنون، بل حوّل المجرم مباشرةً في حادثة نانت إلى مستشفى الأمراض النفسية، باعتبار نتائج تحقيق أوّلية تربط بين الجنون والاضطراب النّفسي وارتكاب الجريمة. ولم تشر عبارات المتدخّلين (إلا من أبناء جلدتنا) إلى الطّبيعة الإرهابية للجريمتَين، بل استبعدت أيّ إشارة إلى ذلك، باعتبار أن الإرهاب علامة حصرية للمسلمين (أيّاً كانوا) عندما يقع منهم الإجرام ذاته. وكان كان وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو من بين الضيوف، كما كان للرئيس إيمانويل ماكرون تصريحَين لافتين، لم يشر فيهما إلى الإسلاموفوبيا والكراهية، المنتشرين في الخطاب الإعلامي، والربط بين ذلك ووقوع الجريمتَين. أيضاً، باحتساب كمّي للخطاب، فإنّ 9/10 منه كان متّجها نحو اعتبار أنّ المعادلة في وقوع الجرائم وتوصيفها في فرنسا، يتمّ وفق طبيعة المجرم والضّحية. وكلّما كانت الضّحية والمجرم من الفرنسيين والمغاربيّين على التّوالي، كان الخطاب أنّ ذلك إرهاب، وحصريا إرهاب، والعكس بالعكس.
تبعاً لما سبق، فإنّ الساحة السياسية الفرنسية تُسجّل، بتناولها الإعلامي للحادثتَين، تأكيداً لتحوّل ثقافي، وإعلامي، سبق الحديث عنه في مقالات لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد"، لكن (وهنا بيت القصيد) هذا التحوّل كان ذا طابع سياسي وأيديولوجي، ويتحوّل منذ 2022 (عام الغزو الروسي أوكرانيا) حرباً يُجهّز الجميع أنفسهم لها، والنُخبة السياسية الفرنسية تعرف أنّ التحوّل الطاقوي توقّف بسبب شُحّ الإمدادات الغازية مع الحظر على طاقة روسيا، كما توقّف الانتقال الطاقوي بالتّوجّه المفروض إلى النووي. ومن ناحية ثالثة، ذهبت الاستراتيجيات المالية للتقليل من الانفاق على الدفاع أدراج الرياح، بسبب تلك الحرب، وبرجوع ترامب إلى البيت الأبيض وارتفاع وزن احتمال مغادرة الولايات المتّحدة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ممّا يُسبّب واقعياً وجوب تغيير لغة الخطاب ورمزياتها، إضافةً إلى تشديد القبضة على مناطق النفوذ الوحيدة المتبقّية لأوروبا، ولفرنسا، وهي القارّة الأفريقية أو المستعمرات القديمة.
يجعل مضمون الخطاب المهيمن إعلامياً من معاداة السامية الجريمةَ الوحيدةَ المسوّغ للجميع (في الغرب) الدفاع عنها
يبرز هذا التّوجّه من خلال تحوّل رجال أعمال كبار في فرنسا نحو اكتساب (بل اكتساح) وسائل الإعلام (قنوات إخبارية وشركات إنتاج ومنصّات وجرائد ومجّلات ومواقع)، وذلك كلّه للإمساك بالكلمة، ولتوحيد الخطاب إزاء الهجرة والإسلام والمتوسّط الجنوبي والقارة الأفريقية، بِعدّها مصادر للتّهديد. وبالتالي، تكون المشكلة هي الخطاب الأيديولوجي المعمّم على الغرب. بالعودة إلى ذلك الخطاب، فإنّ مضمونه لا يجب أن يخرج عن تعليمات تأخذ في عين الاعتبار ما سبق الإشارة إليه، وإلباسه لبوس الحقيقة الوحيدة الطاغية، ومنها تلك الحقيقة التي تجعل من معاداة السامية الجريمةَ الوحيدةَ المسوّغ للجميع (في الغرب) الدفاع عنها، في حين يصبح الحديث عن العنصرية أو الإسلاموفوبيا ثانوياً، إن لم يكن هامشياً، إلا فيما ندر، ومن دون صخب إعلامي، بل وفي غيابٍ تامٍّ لانخراط المنابر السياسية والنخبوية، ذات التأثير الكبير في توجيه الرأي العام، لأنّ الهدف النهائي هو بناء منظومة تفكير وخلفيّتها توجّه سياسي يكون فيه للأفكار المشار إليها الغلبة، والبروز الطاغي، دون غيرها من الدعاوى والقضايا التي يجب الصمت فيها أو تغطيتها، حتى لا تبرز و يرتفع صوتُها.
تطبق النُخب الفرنسية الإعلامية والمثقّفة تلك التعليمات بحذافيرها، خاصّة عندما يحدث ارتفاع للجرائم ضدّ المسلمين، وكأنّهم يعملون من خلال سكريبت واحد ومن خلفه رئيس تحرير موحّد، شكلاً ومضموناً، كما أشرنا، إضافة إلى خطاب، بمفردات وسياقات هي في المقاربة العلمية لتحليل الخطاب، يرتكز على استخدامٍ محتشمٍ لعبارة العنصرية، ولكنّه يخرج الجرائم من دائرة كراهية المسلمين باعتبار أنّ الحديث عن ذلك سيساوي بين جريمتي معاداة السامية والإسلاموفوبيا، وهو ما لا تريده الجهات المحتّلة للصدارة في المنابر الإعلامية والجهات المالكة لها والجهات المؤثّرة فيها، وبخاصّة أنّ ما يقع له صلة بتداعيات الإبادة الجماعية في غزّة، وارتفاع أصوات بوجوب اتّهام الكيان الصهيوني بارتكاب جرائمَ ضدّ الإنسانية، ممّا لا يمكن قبوله، وفق المعطيات الحالية الطاغية في ساحة الصراع، والتّرجمة الإعلامية والثّقافية لها في الغرب بصفة عامّة، وفي فرنسا بصفة خاصّة.
لنأخذ نموذج رئيس تحرير مجلة عريقة هي لكسبرس (أسبوعية يمينية)، كريستوف باربيي، إذ تحدّث في مقابلة إعلامية له في قناة إخبارية مملوكة لرجل الأعمال اليميني (المتطرّف) بولوري، قائلاً إن الجريمة التي راح ضحيّتها الرعية ذات الأصول المالية (أبو بكر سيسيه) في مسجد بأيدي متطرّف يميني، ما هي إلا تعبير عن خطر ضدّ المسلمين، لكن من دون تضخيم (وفق عباراته) للحادث ومساواته بما يحدث للفرنسيين من الجالية اليهودية، الذين يعانون الإسلاماوية، بل أضاف في نبرة متعالية أن القلّة الإسلاماوية المحرّضة على الجالية اليهودية في فرنسا، بسبب ما يجري في غزّة منذ أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، وعملية طوفان الأقصى، هي من تقف وراء ارتفاع وتيرة تأليب الرأي العام الفرنسي ضدّها، والأكثرية المسلمة المُسالمة، قد يصبح من الصعب عليها العيش مهدّدةً ليس من اليمين المتطرّف، بل من التوتّرات التي يصنعها تحرّك الإسلاماويين.
لا ترى فرنسا النُخبوية حرجاً في أن تكون إسلاموفوبيّة وعنصرية إلى النخاع، ومنحازةً ضدّ الضحايا المسلمين
هناك نموذج آخر يؤدّي إلى التحيّز ذاته لأيديولوجيا الكراهية، وهو مقال لكاتب يميني، هو رفائيل أينتوفن، بعنوان "المحاكمة الخاطئة"، يدافع فيه عن صديقه فيليب فال، صحافي معروف بكراهيته للإسلام وللمهاجرين، بعد أن قال بصريح العبارة، في حديث له يُعلّق فيه على جريمة قتل سيسيه، إنه يكره الإسلام، وإن ذلك لا يعني له شيئاً باعتبار أنّ الإسلام له حصرية الإرهاب، وإنّه ديانة عنيفة لا يجب التعليق على ما يقع لمعتنقيه، حتى عندما يقع منهم ضحايا لعنف آخر هو عنف العنصرية والإسلاموفوبيا.
هناك، بالنتيجة خيط رفيع بين خطاب يُركّز في منع أيّ حديث عن جرائم الكيان والتّغطية عليها، بما يمكن وصفه بمعاداة السامية، في مقابل تحيّن أيّ فرصة عند وقوع جرائمَ لتصنيفها جرائمَ عنصريةً تكاد تكون عاديّةً من دون ربطها باليمين المتطرّف، تصعّد الخطاب المتطرّف وكراهيّة المسلمين أو الإسلاموفوبيا، وهو ما يؤكّد أنّ التوجّه الفرنسي له خلفيات سياسية واستراتيجية، وأنّ الإعلام، والخطاب الذّي يحمله، ما هما إلا ترجمةً فعليةً لكلّ تلك الخلفيّات.
تلك هي المنظورات الثقافية والإعلامية التي يتجلّى فيها الخطاب الفرنسي من دون مساحيق أو كنايات كانت معتمد الموقف والأساس، إلى ماضٍ قريب. لكن، مع التحوّل الاستراتيجي وخلفيته السياسية، لا ترى فرنسا النُخبوية حرجاً في أن تكون إسلاموفوبيّة وعنصرية إلى النخاع، ومنحازةً ضدّ ضحايا بعينهم، هم المسلمون، ممّا يُهدّد تماسك المجتمع الفرنسي، الذّي لم يبقَ منه إلا بعض التيّارات السياسية الشريفة في مواقفها، على غرار حزب فرنسا الأبية (اليساري)، وقائده جان لوك ميلانشون أو من المفكرّين مثلاً، فرانسوا بورغا، الذي يواجه القضاء الفرنسي في هذه الأيّام بتهم مدح الإرهاب، بسبب وقوفه ضدّ ما يجري لأهلنا في غزّة من إبادة جماعية ولم يجد من بين فئة الباحثين والجامعيين، وهو واحد منهم، تأييداً ومساندةً.
إنّها فرنسا في أبهى صورها، تناصر القضايا الخاسرة، على الأصعدة كافّة.
