في تعزيز ثقافة الحداثة والتحديث

2 weeks ago 6
ARTICLE AD BOX

ننطلق في مواجهة معضلاتنا الثقافية المرتبطة بموضوع علاقتنا بالآخر وبالآخرين، من ضرورة تبنّي مبدأي الإيجابية والمرونة، فنحن لا نعيش في جزيرة معزولة، وقضايا العالم المعاصر، سواء منها المرتبطة بفضائنا الجغرافي والتاريخي والثقافي، أو بالقضايا العالمية الأخرى، تُعدّ جزءاً من قضايانا، بحكم الترابط القوي الحاصل في العالم اليوم. إضافة إلى ذلك، نشير إلى أن الطابع المركّب لمعاركنا الثقافية يدعونا إلى عدم إغفال علاقة هذه المعارك (في بعض أوجُهها) بدرجات تمثّلنا للثقافة الغربية المعاصرة وقيمها. فقد أثمرت جهود الفكر الإصلاحي النهضوي والمشاريع الفكرية النقدية الجديدة، التي تبلورت نهاية القرن الماضي في ثقافتنا، جملة من المعطيات المهمة في مجال تطوير أدائنا الثقافي، ومعنى هذا أن العمل في الجبهة الثقافية يقتضي منّا أولاً، الحرص على مزيد من ترسيخ المكاسب الثقافية الجديدة التي حصّلناها، وأصبحت تُعدّ اليوم جزءاً من ثقافتنا. ولا يتم ذلك، إلا بشحذ آليات النظر التاريخي والنقدي في فكرنا، وفي مختلف مجالات وجودنا الاجتماعي.

وضمن هذا السياق، ينبغي الانتباه إلى أن لغة الهُويَّة المتشنّجة، ولغة المرجعية الأصل الذي لا أصل يعلو عليه، أصبحت من دون جدوى، إنها لا تنفع كثيراً في زمن لم تعد فيه هويتنا التاريخية مغلقة على ذات مكوّنة من عقيدة مطلقة، ولعلّها لم تكن كذلك يوماً إلا في الأذهان، التي ارتأت استخدام "سلاح" الهُويّة في مواجهة تاريخية غير متكافئة، غير عابئة بالدور المهم الذي يمكن أن تقوم به الروح النقدية، وروح الوعي التاريخي المفتوح، لو استخدمت بديلاً لما ذكرنا، ونحن نواجه مصيرنا في عالم متغيّر. وعندما نلحّ اليوم على مطلب تعزيز الروح المذكورة، في النظر إلى ذاتنا وإلى الآخرين، نكون قد تجاوزنا لغة الهُويَّة الساكنة والمغلقة، والأصل الواحد والماضي المُؤسطَر، لتصبح تجربة الذات، بل تجاربها المتواصلة في التاريخ، علامات على تشكّل تاريخي ما يفتأ يتشكّل، مُستوعباً تجارب الذات وتجارب الآخرين، في جدلية مفتوحة على الحاضر والمستقبل في أوجههما المختلفة. وبهذا المعنى، نجسد ما أطلقنا عليه تعبير التعامل الإيجابي والمرن مع قضايا حاضرنا ومستقبلنا، وهي القضايا التي لا يمكن فصلها عن قضايا العالم المعاصر.

عندما نعترف بأن الغرب يُعدّ اليوم جزءاً من تاريخنا المعاصر، وأن مكاسبه في الثقافة والسياسة والتقنية تُعدّ جزءاً من مكاسب عالمنا المعاصر، فإن الثنائيات المفهومية التي حدّدت ملامح تصوّرنا لعلاقتنا به، خلال عقود القرن العشرين، لا تعود مُناسِبة لفهمٍ أكثر تاريخية لما حصل بيننا وبينه. فقد أثمرت عمليات المثاقفة في القرنَين الماضيَين، نتائج لا يمكن إغفالها ولا التقليل من قيمتها. كما لا يمكن التنكّر لها بدعوى المحافظة على "هُويّة" موسومة بسمات مطلقة، لهذا السبب نتحدّث هنا عن ضرورة التجاوز، ونتّجه إلى بلورة ما يسعف بإدراك أفضل لدرجات انخراطنا المنفعل والفاعل في العالم المعاصر.

 لا تشير الحداثة إلى قيم مغلقة، إنها تضعنا أمام خيارات وإشكالات جديدة

إن التأويل العربي الإسلامي لمنظومات الفكر السياسي الحديث والمعاصر، وقد تَمّ خلال عقود القرن الماضي، وعكس بكثير من القوة كفاءة الفكر العربي لحظة إعادة بنائه جملة من المفاهيم والتصورات المرتبطة بفضاء التدبير السياسي الدنيوي، العنوان البارز اليوم في ثقافتنا السياسية الجديدة، ومنحنا جدارة امتلاك الثقافة السياسية المفتوحة على أفق كوني، يحضر فيه المنتج الثقافي الغربي مع منتج باقي الثقافات والتجارب التاريخية في كلّ من آسيا وأفريقيا، وفي مختلف الثقافات، التي عملت على إعادة مساءلته، لحظة تفكيرها في كيفيات إنجاز ما يجعل الأفق المذكور، أكثر مواءمة لواقعها المحلّي، وإشكالاتها المختلفة قليلاً أو كثيراً عن الإشكالات التي ارتبطت بالمشروع نفسه، لحظة تبلوره الأول، داخل التاريخ الغربي الحديث والمعاصر. ولهذا السبب نقول، إن تجاوز الثنائيات المذكورة آنفاً، يعني رفع الطابع التكراري المهيمن على ثقافتنا المعاصرة، وهو الطابع الذي يساهم إضافة إلى معطيات تاريخية أخرى، في كبح مغامرة الإبداع في ثقافتنا المعاصرة. علماً بأن تجاوز الثنائيات المذكورة، لا يعني انتفاء الصراع والخلاف بيننا وبينه.

نستلهم في دفاعنا عن ضرورة تجاوز الثنائيات التي قَيّدت حدود نظرنا في الموضوع، وحاصرت رؤيتنا الخاصّة للحداثة، التي تُسلِّم بأن المحلّي والخصوصي في التاريخ، يحدّدان المدخل المناسب، للمساهمة في بلورة الثقافة الكونية والمشروع الثقافي الإنساني في تنوّعه واختلافه. ونتصوَّر أن انخراطنا في مواجهة إشكالاتنا الثقافية السياسية والتاريخية، وإشكاليات الزمن الذي ننتمي إليه، يؤطّر اليوم وجودنا، ويمنحنا مناسبة لإنجاز نوع من التصالح مع ذاتنا، ومع الآخرين من حولنا، وتعقّل مصيرنا في العالم.

تشكّل قيم الحداثة والتحديث اليوم الأدوات المناسبة والمساعدة في تفكيك سقف التقاليد والقيم العتيقة وتفتيتها

يقف منطق النجاعة في التاريخ، وراء مختلف التصوّرات التي ركّبناها في الفقرات السابقة، ومن هنا دفاعنا عن قيم الحداثة والتحديث، باعتبار أنها تشكّل اليوم الأدوات المناسبة والمساعدة في عمليات تفكيك (وتفتيت) سقف التقاليد والقيم العتيقة، التي لا تزال تُشكّل جزءاً كبيراً من ثقافتنا المعاصرة. ولا بدّ من التوضيح هنا، أن الحداثة في تصوّرنا لا تشير إلى قيم مغلقة، إنها تضعنا أمام خيارات وإشكالات جديدة، تدعونا إلى التفكير في واقعنا بالصورة التي تمنحنا جدارة الانتساب إلى الأزمنة المعاصرة، والتفكير في المستقبل في ضوء معضلات التاريخ المعاصر، بمختلف أوجُهه وتناقضاته.

لن نلجأ هنا، ونحن ندافع عن ضرورة التحديث الثقافي، إلى المخاتلة أو المراوغة، فقد انخرطنا قسراً، ومنذ زمن ليس بالهين، في تعلم أبجدية الحداثة، وقد واجهنا ونحن نتهجّى هذه الأبجدية في الفكر وفي الحياة، إشكالات ثقافية سياسية لا حصر لها، وترتّب على ذلك جملة من المعارك والسجالات، كما نتج عنها تبلور وعي جديد، يستوعب جملةً من فضائل المثاقفة والتطوّر في التاريخ. ويبدو أننا اليوم مؤهلون لمواصلة عمليات انخراطنا في دروب الحداثة والتحديث، بصورة نجمع فيها بين مبدأ مواصلة الاستفادة من تجارب الآخرين، ومحاولة بناء أسئلتنا الخاصّة، أسئلة واقعنا المحلّي، لتعميق وعينا الحداثي، ودعم مشروع الثقافة الحداثية في العالم. ونتصوّر أن انخراطنا اليوم في المشروع الحداثي يمنحنا أفقاً في النظر. إنه لا يمنحنا عقيدة، بل رؤية جديدة، ومنهجاً في تعقّل ظواهر الكون والمجتمع والسياسة، تمكنّنا من إيداع الوسائل والأدوات المساعدة في عملية تملّك أفضل لحاضرنا ومستقبلنا.

Read Entire Article