ARTICLE AD BOX
أكثر من مؤشّر على أن حرب غزّة ليست الا واحداً من فصول إعادة تفكيك إشكاليات الشّرق الأوسط وتركيبها وفق هندسة جيوسياسية جديدة، كان برنارد لويس لمّح إليها في خريطته المشهورة ثمّ جاء ترامب، في ولايته الأولى، فحوّلها إلى حركية تتضمن تلك الثُّنائية التّفكيكية ثمّ التّركيبية، ارتكازاً على عمودين اثنين، صفقة القرن بالقضاء المبرم على القضيّة الفلسطينية وبالاتّفاقات الإبراهيمية التي تضع حدّاً لغرابة الكيان الصُّهيوني عن الإقليم الشّرق أوسطي، وبين ذلك وذاك كان الربيع العربي قد هيأ المشهد لتكامل دائرة الهشاشة وتهيئة الجسم السياسي والجيوسياسي العربيين، لتقبُّل فكرة تفكيك المفكّك وتجزئة المجزّأ.
تشير تلك الحركيّة الصّراعية إلى إرادة مخطّطة من المحور الصّناعي العسكري المزدوج الأميركي- الغربي جاءت في مذكّرات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كوندوليزا رايس، تحت عنوان "الفوضى الخلاّقة" التّي أضحت خريطة طريق لتفاعلات صراعية منذ 11 سبتمبر (2001) الذّي كان المنطلق لبداية تجسيد المخطّط بغزو أفغانستان والعراق، بعدها، ثم التحضير لكلّ المشهد الذّي غطى فضاء الشّرق الأوسط الكبير، من باكستان شرقا إلى طنجة غرباً، ولم يستثن منطقة أو دولة، حيث كانت كلُّ الفرص المتاحة من مداخل التّحريك الفعلي لكلّ المخطط التفكيكي والتّجسيدي في سبيل بناء شرق أوسط جديد. كانت الولايات المتحدة قد حلّت معضلة الوكيل فيه بمنح الدّور الأكبر للكيان الصُّهيوني مع الاحتفاظ باحتمالات توكيل إدارة بعض المصالح الأطلسية والغربية لتركيا، وربّما إيران إذا جرى القضاء على أذرعها في لبنان وفي غزّة، وأبعد من ذلك في اليمن مع إضعاف بعضهم منها في العراق، وصولا إلى عقد اتّفاق نووي، تجري حالياً عملية رسم تفاصيله في مفاوضات مضنية، في مسقط، بوساطة عُمانية.
هل يُعقل أنّ أميركا، بكل هيلمان أجهزتها الاستخباراتية، لم تضع في حسبانها عوامل معرقلة لما جرى التّخطيط له؟ الإجابة، طبعا، لا حيث إنّ كلّ توقع، تقدير موقف، في علم الاستراتيجية، يخضع لقراءة كلّ السيناريوهات وتصوُّر كلّ الخيارات/الاحتمالات، ومنها مجيء عوامل لم تكن محسوبة تعرقل التّخطيط أو تعطله، مع التّحضير لحلول التّعامل معها وآليات، أمّا القضاء عليها أو تحييدها، بحيث لا تكون عاملاً مؤثّراً على كلّ المخطط أو معوقا في سبيل الوصول إلى تحقيق منجزات وتحقيق مكتسبات.
لم يترك الغرب، وفي مقدّمته أميركا موضوعاً أو مساراً لم يحضروا لتخريبه أو تهيئة ظروف دخوله سياق الخراب
لا يدخل ما جرت الإشارة إليه في إطار المؤامرة، بل هو ما جرى العمل به، حقّاً، حيث لم يترك الغرب، وفي مقدّمته أميركا موضوعاً أو مساراً لم يحضروا لتخريبه أو تهيئة ظروف دخوله سياق الخراب. ومنها، على سبيل المثال، نشر تقرير الحرية في العالم العربي في 2002، ثم إرفاقه بتصنيفات للجماعات المعتدلة ولقائمة النّشاطات والمؤثّرين الذّين يجب تشجيعهم لإيجاد ذلك المناخ الذّي سيوجد، حتماً، من جهته، مقدّمات الخراب في العالم العربي بإذكاء التّناقض بين سلطات ضابطة للمجتمع بأياد من حديد ومجتمعات تتوق إلى فضاءات تعبير خارج تلك السُّلطات ليولد، بعدها، ذلك التّجاذب بين سياقات تحرّرية تحتاج أوضاعاً اجتماعية وأخرى سياسية منفتحة ومؤسّسات سياسية بالية لا رضا عليها من المجتمع. وإذا خالطت ذلك مسارات انتخابية مزوّرة وأخرى موجّهة/ مستقطبة تعمل على الحفاظ على آليات الضبط القهري للمجتمعات، فإن الخطوة التي تليها يمكن تصوّرها، خصوصاً مع تقدم التكنولوجيا الاتصالية، ليفتح الباب واسعاً على مصراعيه، لاختلالاتٍ اجتماعية قد تأخذ شكل الاضطرابات التي شهدها العالم العربي في 2011، وتطوّرت من ربيع عربي إلى شتاء تسلطي كان من تداعياته صناعة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي يمكن اعتبارها جيل الإرهاب رقم 02، وما كان يحتاجه ذلك فوضى عارمة تتزامن فيها الانقلابات مع الحروب الأهلية ومشاريع تهديم الدولة، ثم ارتفاع أسهم الفاعلين من غير الدولة، سواء تحتها من قبائل (العراق وليبيا أنموذجين) أو فوقها (جماعات داعش وبوكو حرام، أنموذجين).
من ناحية أخرى، لم يكن لتلك الخريطة للهشاشة والفوضى أن تسيطر على فضاءات دون أخرى، بل عمت ليكون الأمر سيان بين المشرق والمغرب العربيين، بل أضيف للمنطقة المغاربية عمق استراتيجي (منطقة الساحل)، هي فضاء فوضى يجتمع فيها غياب السلطة والقانون مع انتشار الفقر وشساعة للمساحة (10 مليون كلم2) يمكن استخدامها مختبراً لكل الفعاليات الصراعية من اقتتال، هشاشة للدّولة، فشل للسّياسات العامّة، الانقلابات والتّدخُّلات الجوارية، الإقليمية والدُّولية، إضافة إلى ساحة مفتوحة لتجربة كل الأسلحة، التّقليدية والمسيّرات والطائرات من دون طيّار.
ظنّ كثيرون أنّ صفقة القرن والاتّفاقات الابراهيمية قد قضت، عمليا، على القضية الفلسطينية، خصوصاً مع بروز ضعف السُّلطة الفلسطينية
في خضّم كلّ ما ذكرنا، جاء "طوفان الأقصى" حدثا معيقا لكلّ ذلك التّخطيط، حيث ظنّ كثيرون أنّ صفقة القرن والاتّفاقات الابراهيمية قد قضت، عمليا، على القضية الفلسطينية، خصوصاً مع بروز ضعف السُّلطة الفلسطينية. وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لإدخال بعض التّغييرات على التّخطيط، حيث جرى استعجال توسيع جغرافية الكيان بعمليات التّهجير التيّ يُخطّط لها لساكنة كلّ من غزّة والضفّة الغربية، كما جرى استعجال مخطّطات إعادة تهيئة المنطقة، خصوصاً من حيث طبيعة الحكم، لأنّ ما جرى تصوُّره من إمكانية التّعامل مع الاعتدال، وفق إدراكهم، لا يتّفق مع المخطّط له، خصوصاً في صورة وكيل الغرب، الكيان الصهيوني، متسيّداً ووكيلاً من دون منازع.
من أدوات هذا الشّكل الجديد للتّخطيط، توسيع رقعة الفوضى والحرب، لانّ معادلة السّلام والرّخاء لا تتوافق مع المخطّط له. وبالنّتيجة، الأحداث المسمّاة "ما بعد غزّة" لا يدركها ترامب والغرب، إلا من خلال توسيع رقعة الفشل، الهشاشة والفوضى والحرب لتشمل رقعة العالم العربي وامتداداته الجيوسياسية، مع تشديد الخناق على أيّ احتمال لوقف ذلك التّمدُّد الصّراعي ولصالح الكيان الصهيوني. لذلك نرى خنق مصر من النيل ومن شمالها، كما نرى إفشالاً لكبار العالم العربي، مشرقاً ومغرباً، خصوصاً من خلال الخلافات أو برفع مستويات العجز، على كل الأصعدة، وآخر صورة له انهيار أسعار النّفط إلى حدود دنيا لم تُعرف منذ 2021، وهذا كله في سبيل استمرار الفوضى ولتوسيع رقعة الصّراع إلى حين تجسيد ما جرى التّخطيط له.
عندما نتحدّث عن مؤشّرات تحوُّل حرب غزّة إلى صراع إقليمي، فانّ الأمر لا يتعدّى مجرّد استمرار الفوضى بسياقات إعادة ترتيب المنطقة، لتكون على هيئة فضاء بدون المضمون الفكري أو خلفية المقاومة، لتمدُّد الصراع. وقد رأينا أن نزع سلاح المقاومة، بداية، ثم تجريم الانتقاد للكيان، حتى بمجرّد الحديث أو حتى من خلال منشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي (حديث وزير خارجية أميركا، روبيو، عن منع التأشيرة عن كل من في صفحاته في الفضاء الافتراضي انتقاد للكيان أو وصف ما تقوم به كتائب القسام جهاداً ومقاومة، بل والإشادة بالصمود أو مجرّد اتهام الكيان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية).
لا أحد كان يتصور إمكانية أن ترفع محاكم دولية دعاوى ضدّ الكيان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية
بالنتيجة، في آخر المطاف، لا يعني التّمدُّد المعني، هنا، لحرب غزّة لتصبح صراعاً إقليمياً، ألبتّة، انخراط فاعلين من دول الشرق الأوسط، في الحرب ضد الكيان، بقدر ما يعني أن ما بعد غزّة توسيع للهشاشة والفوضى ورفع وتيرة التناقضات المجتمعية في الفضاء الشرق أوسطي برمّته، وهو ما نراه على كل الأصعدة، حيث هناك فشل للنّماذج الاقتصادية وتمدُّد للفشل إلى المنظومات الاجتماعية (التّربوية والتّعليمية) وانتشار للجريمة على نطاق واسع، إضافة إلى عدم ضبط إيقاع التّوافقات المجتمعية، من خلال إفشال كلّ محاولات إقرار لعقد اجتماعي. وهذا على طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، إضافة إلى فشل في تلبية الاحتياجات وانتشار للفقر، البطالة وشتّى الأمراض الاجتماعية.
بالرّغم مما تقدّم، هل ثمّة إمكانية لرؤية تفاؤلية للمشهد بعيداً عن سوداوية ما أشير إليه؟ الإجابة بنعم، إذا جرى حل عقد تلك الفوضى، والابتعاد عن مسبّبات الهشاشة وسياقات الفشل، وهو ما حاول القيام به المبادرون ب"طوفان الأقصى"، حيث تم تحويل القضاء المبرم للقضية الفلسطينية إلى أسباب للانعتاق من ربقة الاحتلال والتّسلطُّية، معاً. ودليل ذلك أنّ لا أحد كان يتصور إمكانية أن ترفع محاكم دولية دعاوى ضدّ الكيان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. بل، أبعد من هذا، أضحى الكيان الذّي كان يختبئ وراء المحرقة مرتكباً محرقةً أخرى. ولم يأت هذا على لسان حكّام الفضاء الشرق الأوسطي وساكنته، بل جاء من مؤسّسات وسياسيين ومثقّفين من الغرب، ما يدلّل على أن التّضحيات الكبيرة جاءت بنتيجة، وأنّ ما كان مخطّطا له لو تتمدد المقاومة له، بشتّى الطُّرق والوسائل، فإنّه كفيل بمنع تمدّد الحالة الصّراعية، كما جرى تصويرها أعلاه، بل سيقلب السّيناريوهات التّي جرى بناؤها لتتحوّل المنطقة من منطقة فوضى إلى منطقة بناء لسلام مستدام، يتوافق فيه تحقيق المراد من دحر الاستيطان إلى تحقيق المراد بإقرار عقد اجتماعي يكفل العدل والمساواة، إضافة الى تجسيد منظومة الحقوق والواجبات.
