ARTICLE AD BOX
يحمل إفراج المقاومة الفلسطينية في غزّة عن الأسير لديها، الجندي الصهيوني الأميركي عيدان ألكسندر، دلالاتٍ مهمّةً، إذ ينظر الإسرائيليون إلى عملية الإفراج، التي جاءت ضمن تفاهماتٍ مباشرة بين الولايات المتحدة وحركة حماس ومن دون أيّ تدخّل من الإسرائيليين، بأنها إهانة لكيانهم، تسبّبت فيها الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو. والواضح أن ملابسات الإفراج عن ألكسندر وضعت نتنياهو في موقفٍ حرج، لم تستطع حتى ابتسامته في أثناء اتصاله البروتوكولي به، وتهنئته على سلامته، أن تمحو هذا الإحراج، إذ سبق هذا الاتصال رفض الجندي مقابلة نتنياهو، وعدم توجيهه (وأمّه) الشكر إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية، ما دفع المذيع في القناة 14 المقرّبة من الحكومة ينون ماغال إلى التغريد متّهما والدة ألكسندر "بنكران الجميل وقلّة الوعي لعدم شكرها رئيس الحكومة"، ليُواجَه في المقابل بهجوم لاذع من معارضي نتنياهو. وهكذا بدت مناسبة الإفراج عن ألكسندر فرصةً لتصفية الحسابات بين أنصار الموالاة والمعارضة، ووسيلةً فاشلةً لالتقاط صورة إنجاز من نتنياهو وأنصاره.
الأكثر أهميةً من هذا التنافس من أجل تصفية الحسابات أن إطلاق سراح الجندي المذكور ترك لدى الإسرائيليين انطباعاً واضحاً بمحدودية قيمة الجنسية الإسرائيلية إذا ما قورنت بجنسياتٍ أخرى، وفي مقدّمتها الأميركية؛ خصوصاً أن "حماس" سبق أن أطلقت سراح أسرى صهاينة يحملون الجنسية الروسية إرضاءً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ورغم أن هذا الانطباع مؤقّت تحرّكه مشاعر الغضب من تأخّر الحكومة الإسرائيلية في عقد صفقةٍ تعجّل بتحرير الأسرى، بل لم يتوانَ الوزيران بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير عن التصريح بأن الاهتمام الزائد بقضية الأسرى يضعف موقف إسرائيل في مواجهة حركة حماس، كما تحرّكه المناكفات السياسية بين الحكومة والمعارضة، فإن ما يشعر به الإسرائيليون حالياً أصبح شبيهاً (بدرجة أو بأخرى) بما يشعر به مواطنو بلدان العالم الثالث، ممّن يرون أن لا كرامةَ لهم في أوطانهم، وأن الجنسيات الأجنبية، وفي مقدّمتها الأميركية، حصن أمانٍ في مواجهة التهديدات. وتفيد تقديراتٌ بأن لدى أكثر من مليون من يهود إسرائيل جنسيات أوروبية أو أميركية إلى جانب الجنسية الإسرائيلية، أي ما يُقدَّر بـ13.5% من مجموع اليهود في دولة الاحتلال، وأن هناك تزايداً حادّاً في أعداد المتقدّمين منهم للحصول على جنسيات أميركية أو أوروبية بدأت مع الولاية الأخيرة لحكومة نتنياهو مطلع 2023، وقفزت قفزةً كبيرةً بعد اندلاع "طوفان الأقصى" (8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023).
بدت مناسبة الإفراج عن ألكسندر فرصةً لتصفية الحسابات بين أنصار الموالاة والمعارضة في إسرائيل
لكن إدراك الإسرائيليين قيمة حملهم جنسياتٍ أجنبية لم يصل من قبل إلى هذا المستوى الذي صنعته الأحداث الحالية، وأخيرها إطلاق سراح ألكسندر. في هذا السياق، كتب الصحافي في "يديعوت أحرونوت" رعنان شاكيد: "إن تذكرة الخروج الوحيدة الممكنة للأسرى الباقين في أنفاق غزّة هي الجنسية الأميركية، التي لا يمتلكونها للأسف. فإذا كنت لا تحمل سوى الجنسية الإسرائيلية، فلا تتوقّع شيئاً من حكومتك، ولا تنتظر منها سوى الكلمة التي أصبحت أكثر رواجاً في الآونة الأخيرة: الموت". وهكذا، تصبح فرحة الإسرائيليين بإطلاق الجندي الصهيوني "الأميركي" منقوصةً، لأنهم يدركون، في الوقت نفسه، أن هناك جنوداً إسرائيليين ما زالوا في الأسر في غزّة، لأنهم لا يملكون سوى الجنسية الإسرائيلية، حسب تعبير الكاتب في "يديعوت أحرونوت" ليئور بن عامي.
وقد اعتبر كتّاب إسرائيليون آخرون، مثل نافيه درومي، في الصحيفة نفسها، أن الفرحة بتحرير ألكسندر ممزوجة بشعور بالمرارة، لأن ما جرى دليلٌ على أن الأسير الإسرائيلي أقلّ قيمةً من الأسير الأميركي، وهو وضع قد يجد فيه بعض الإسرائيليين ما يواسيهم، لأنّه يضرّ أكثر بصورة نتنياهو، ويضعه في موقفٍ غير إيجابي على الإطلاق، ويكشف خيبةَ أمله في شخص ترامب، الذي ناصره في مواجهته ضدّ كامالا هاريس، غير أن هؤلاء لا يدركون أنه لم يُنتقَص من شخص نتنياهو وحده، بل هو انتقاصٌ من مكانة إسرائيل أيضاً، التي لم تكن طرفاً في مفاوضات الإفراج عن الجندي الصهيوني الأخير.
في محاولة قراءة أعمق لملابسات تحرير ألكسندر، ذهب الصحافي جادي عزرا ليقول، في "يديعوت أحرونوت"، إن الفرحة بتحرير الجندي يجب ألا تُنسي الإسرائيليين أن إسرائيل لم يكن لها أيّ دخلٍ في ما جرى، وأن الدولة حينما كانت تنشغل في الماضي بتحرير أسراها، كان ذلك دليلاً على دفاعها عن مواطنيها بقدراتها الخاصّة من أجل إثبات وجودها، لكنّ هذا لم يحدُث هذه المرّة، وهو مؤشّر على تغير الواقع، وأن إسرائيل لم تعد الفاعل الرئيس في كلّ ما يتعلّق بمصيرها، ومن ثمّ فإن تأثيرها في ما يحدث في المنطقة أضعف بكثير ممّا كان عليه الوضع في الأيام الأولى لإدارة ترامب، وهنا تحديداً تجب قراءة هذا الحدث في سياق أوسع؛ فالإدارة الأميركية تجري مباحثاتٍ مباشرة مع إيران بشأن برنامجها النووي، من دون إشراك إسرائيل، كما أن اتفاقها مع الحوثيين تنطبق عليه الملاحظة نفسها، بل يصرّح ترامب بوضوح أن إطلاق ألكسندر "خطوة أولى لإنهاء الصراع الوحشي"، وهو لا يقصد إنهاء حرب 7 أكتوبر وحدها، بل وضع نهاية للصراع العربي الإسرائيلي كلّه.
المحصّلة النهائية لعملية الإفراج عن عيدان ألكسندر أن جندياً صهيونياً خرج من الأسر وبقيت غزّة تحت الحصار
ما تحدّث عنه غادي عزرا سبقه إليه بأيّام المحلّل العسكري للقناة 13 الصهيونية ألون بن دافيد، في مقال في "معاريف" سبق إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي، فاعتبر أن نتنياهو أصبح يتلقّى ضربة تلو الأخرى من واشنطن، فالرئيس الأميركي يقود سياسةً أميركية مستقلّة في الشرق الأوسط، لا مكان لإسرائيل في صنع القرار فيها، بل إنها حتى لم تعد مطّلعةً على تفاصيل ما يجري من تفاهماتٍ تؤثّر حتماً في إسرائيل، فقد تخلّى ترامب عن إسرائيل في مواجهة الحوثيين في اتفاق ثنائي، ويجري مفاوضات مستقلّة مع إيران بشأن برنامجها النووي، من دون أن يكلّف نفسه عناء إطلاع نتنياهو على تفاصيل مفاوضات يتمنّى الأخير لو كان مصيرها الفشل. وهذه المواقف الأميركية الناتجة بالأساس من نظرة ترامب إلى نتنياهو بأنه "فاشل"، حسب وصف الرئيس الأميركي، جعلت نتنياهو يشعر بالعزلة والخيبة أكثر من أيّ وقت مضى، بحيث لم يعد في مقدور حتى أبرع خبراء الماكياج إخفاء علامات الخيبة من وجهه، حسب تعبير بن ألون.
ورغم ما حملته مقالات أصحاب الرأي الإسرائيليين الذين كتبوا عن موضوع إطلاق ألكسندر في الصحافة الإسرائيلية من شبه إجماع على محدودية قيمة الجنسية الإسرائيلية، وقراءة ما حدث تراجعاً للدور الإسرائيلي في المنطقة، فإن ذلك يدخل ضمن الصراعات السياسية والحزبية، ويتضمّن مبالغاتٍ واضحةً، لكنّه في الوقت نفسه يعكس حقيقةً لا تقبل الشكّ، وهي أن الولايات المتحدة حينما تشعر بالخطر على إسرائيل تتدخّل للتحرّك المباشر في المنطقة لحماية الكيان الذي زرعه الغرب في المنطقة. ولهذا السبب، تحديداً يمكن النظر إلى ما جاء على لسان بعض الكتّاب من أن إسرائيل لم تعد اللاعب الرئيس، حتى في ما يتعلّق بمصيرها، على أنه يحمل قدراً كبيراً من الحقيقة، وإن بدا غير ذلك.
وعلى هذا الأساس، القارئ العربي مطالبٌ بالحذر في ما يثار من موضوعاتٍ تخصّ دولة الاحتلال عموماً، فالرئيس الأميركي معروفٌ بالمزاج المتقلّب، حسب وصف رعنان شاكيد، كما أنه يوصف بالسطحية وافتقاد الرؤية الاستراتيجية، وتتحوّل وعوده تهديداتٍ فارغةً، فلا أبواب جهنّم فتحت في غزّة، ولا "ريفييرا"، وحتى سياساته بشأن التعرفات الجمركية أصبحت في خبر كان، حسب ما كتب بن ألون. ما يدفع أكثر إلى أهمية عدم الاندفاع وراء ما يثار من تباعد بين ترامب ونتيناهو، وأن ترامب شارك مقطعاً لأكاديمي أميركي نال من رئيس الحكومة الإسرائيلية، ثمّ رحبّ ترامب به (نتنياهو) ترحيباً كبيراً في البيت الأبيض، وفتح مخازن الأسلحة الأميركية لتزويد الجيش الصهيوني باحتياجاته العسكرية. وهذا يعني أن بعض كلمات الرئيس الأميركي أو تصرّفاته، وإن صادفت هوىً لدى بعض المتابعين في بلادنا، فهي في أفضل حالاتها ممّا ينطبق عليه الوصف "الكلمات لنا والأفعال علينا"، خصوصاً أن تحرّكاته في المنطقة تدفعها المصلحة الأميركية وحماية إسرائيل، علاوة على أن المحصّلة النهائية لعملية الإفراج عن عيدان ألكسندر أن جندياً صهيونياً خرج من الأسر وبقيت غزّة تحت الحصار والقصف الإسرائيليَّين.
