ARTICLE AD BOX

<p>تاريخياً يشكل الإصلاح الإداري في لبنان بنداً ثابتاً في الخطب الرئاسية والبرامج الحكومية وعلى رغم ذلك بقيت هذه الظاهرة متأصلة (اندبندنت عربية)</p>
قام رئيس الجمهورية اللبناني جوزاف عون خلال الفترة الماضية بزيارات مفاجئة شملت قطاعات عدة، ولا سيما "هيئة إدارة السير والمركبات والآليات" في الدكوانة – جبل لبنان ومرفأ بيروت. وشكلت هذه الزيارات علامة فارقة استقبلها اللبنانيون بالترحاب واعتبرها مواطنون بداية مرحلة جديدة في التعامل مع ملف الفساد في الدوائر الرسمية، انطلاقاً من قول الرئيس إن "من يغطي الفساد فهو يشارك به".
الفساد متعدد الأبعاد
تاريخياً يشكل الإصلاح الإداري بنداً ثابتاً في الخطب الرئاسية والبرامج الحكومية، وعلى رغم ذلك بقيت هذه الظاهرة متأصلة. ويتخذ فساد الإدارة في لبنان أبعاداً عدة، وليس من قبيل المبالغة الإشارة إلى "فساد مألوف" يتخذ صوراً وأسماءً مختلفة كالتوظيف مقابل الولاء السياسي، و"الواسطة" من أجل القيام بمعاملة ما، وتسريع إنجازها لقاء بدل مالي.
وعلى سبيل المثال نص قانون سلسلة الرتب والرواتب الجديدة الصادر عن المجلس النيابي عام 2017 على وقف جميع صور التوظيف والتعاقد في القطاع العام، إلا أنه فجأة وعشية الانتخابات النيابية أدخل السياسيون 10 آلاف موظف إلى الإدارة العامة نصفهم من العسكريين، بحسب تقارير مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي. وأدى هذا التوظيف السياسي والانتخابي إلى زيادة نفقات الدولة بحدود 300 مليون دولار خلال عامين فقط.
الشغور الكبير
جاء التوظيف السياسي في وقت يعاني فيه القطاع العام في لبنان أزمة شغور كبيرة، وفي دراسة صدرت حديثاً عن "مبادرة سياسات الغد" بأن الدولة اللبنانية تدفع أجور 300 ألف فرد، لكن المفاجأة أن "8000 موظف يعملون بدوام كامل في الوزارات، وبلغت كلف أجورهم إلى إجمال الإنفاق واحداً في المئة فحسب، أما الـ292 ألف موظف المتبقين، فهم من المتقاعدين والقوات الأمنية والمعلمين والدبلوماسيين وموظفي المؤسسات العامة، وهم يحصلون على 59 في المئة من إجمال إنفاق أجور الموظفين". وتشير الدراسة أيضاً إلى أنه "منذ مايو (أيار) 2024 مثلت المساعدة الاجتماعية الموقتة وبدلات النقل نحو 88 في المئة من إجمال تعويضات القطاع العام في حين لم تمثل الرواتب الأساسية سوى سبعة في المئة، ويشكل هذا تبايناً حاداً مقارنة بعام 2019، عندما كانت الرواتب الأساسية تمثل 94 في المئة من إجمال التعويضات".
وتشير تقديرات مجلس الخدمة المدنية إلى وجود شغور بنسبة 72 في المئة، في ظل انهيار كبير في قيمة أجور الإجراء وصلت إلى مستوى 20 دولاراً أميركياً في أصل راتب العسكريين والمدنيين. ويشكو المتقاعدون من تآكل قيمة تعويضاتهم، ويشير ديب الذي تقاعد أخيراً إلى أن تعويض نهاية خدمته يساوي 500 دولار أميركي بعد ثلاثة عقود من الخدمة.
من جهته يقول الناشط عبدالسلام طالب من حراك العسكريين المتقاعدين إنهم "تلقوا وعداً من رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام بإنصافهم وتأمين مساعدة اجتماعية طارئة نهاية الشهر الجاري تساوي 17 مليون ليرة لبنانية (نحو 190 دولاراً) للمتقاعد و20 مليون ليرة (نحو 223 دولاراً) للعسكر الموجود في الخدمة الفعلية"، و"هذه السلفة موقتة ريثما تقر الحكومة سلسلة رتب ورواتب جديدة"، لافتاً إلى "إمكان العودة للتحركات الميدانية والاعتصامات في حال عدم الوفاء بالوعود التي تفتش الحكومة الحالية عن مصادر لتمويلها بصورة جدية".
كارثة التوظيف
يصف المحامي علي عباس من "مرصد مكافحة الفساد"، "التوظيف السياسي" بأنه "فضيحة الفضائح" لأنه يخالف القانون الصادر في 2017، والذي تحدث صراحة عن منع التوظيف، متحدثاً عن "حيل سياسية" تقوم على إدخال موظفين بتسميات وظيفية مختلفة وموقتة من دون دراسة جدوى الحاجات الإدارية، بصفتهم مياومين أو متعاقدين، بالتالي "بتنا أمام فائض في بعض الوظائف، وندرة في أصحاب الاختصاصات ذات الكفاءة والتقنيات العليا، مما حرم الإدارة مزايا الانسيابية وسد الشواغر وسرعة الأداء". وبحسب عباس أيضاً، "ينسحب هذا الأمر على التوظيف في البلديات التي تحاول الأحزاب والجهات السياسية وضع اليد عليها من أجل تحقيق المكاسب وتوزيع رخص البناء، إذ يصبح دور الموظف إرضاء السياسي النافذ وأتباعه، وليس تحقيق الإنماء في البلدة وتأمين الحاجات لتتحول الانتخابات البلدية إلى بروفة مصغرة عن تلك النيابية". وفي المقابل يتطرق عباس إلى "عوائق أمام تثبيت الموظفين وفق مباريات مجلس الخدمة المدنية لاعتبارات سياسية، وهي الصيغة التي حددها المشرع اللبناني لتوظيف أصحاب الكفاءة والمزايا العلمية العالية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا للظلم
يواجه موظفو القطاع العام في لبنان اتهامات تطاول جوانب الكفاءة والنزاهة، وهو ما يعدونه صورة من صور الظلم.
يطالب نائب رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة وليد جعجع بإنصاف الموظفين و"تسليط التهم بالفساد إلى الأماكن الحقيقية، وليس إلى الهيكل الذي يحافظ على استمرارية الدولة وبقائها"، معتبراً أن "هناك ظلماً يلحق بالموظف العام"، ويضيف جعجع أن "الموظفين يعيشون تحت خط الفقر، ولم يتمتع هؤلاء بسلسلة الرتب والرواتب"، مطالباً بسلسلة جديدة عادلة لجميع الناس وتأمين الحد الأدنى من كرامة الإنسان وحاجاته الأساسية. ويقول أيضاً "هناك موظف فاسد وليس إدارة فاسدة، ولا بد من تحميل المسؤولية لمن هم في أعلى الهرم"، مقدراً أعداد الموظفين بـ13 ألفاً وفق مختلف التوصيفات الوظيفية. ويعتقد أن "رقم الـ1000 دولار أميركي هو الحد الأدنى العادل للموظف من أجل تحقيق الاستقرار المالي والقدرة على العيش الكريم"، متحدثاً عن إمكان الاستعانة بمؤسسة دراسات محايدة من أجل دراسة الأوضاع الوظيفية وتأمين حاجات العائلة الأساسية. وينتقد "عدم قيام الحكومة بإصلاح الأجور وابتداع تعويضات جديدة على غرار بدل المثابرة والتعويضات اليومية وبدل النقل وبدل الإنتاجية وغيرها التي لا تدخل في أصل الراتب". ويرفض الدعوات إلى قيام الموظف العام بتولي وظيفة أخرى في القطاع العام لأنه "لا بد من الحفاظ على كرامة موظف الدولة"، كما أن "البلاد في حال انهيار ولا توجد وظائف للخريجين الجدد، فما بالك بالدوامات الجزئية". ويتطرق جعجع إلى انهيار "بيئة العمل"، متسائلاً "كيف تطالبون الموظف بالقيام بأعماله وأنتم لا تؤمنون للمؤسسات العامة الكهرباء والقرطاسية والتجهيزات وآلات النسخ؟"، منتقداً في الوقت عينه "التقديمات الاجتماعية المنخفضة". ويعول جعجع على العهد الجديد في لبنان الذي عليه واجب ضبط القطاعات الإنتاجية لمكافحة الفساد وتأمين مداخيل ثابتة وإعادة الهيبة إلى الدولة وإنصاف المتقاعدين المدنيين والعسكريين وإعادة إطلاق القطاعات الخدمية وبناء إدارة سليمة منتجة.
ملفات متشعبة
تحيط شبهات الفساد في قطاعات عدة، ولا سيما الجمارك والمرفأ وتسجيل السيارات والدوائر العقارية والضريبية والبلديات، وهذا ما أثبتته أخيراً تحقيقات جهاز أمن الدولة، فعلى سبيل المثال أعلنت بتاريخ الثامن من مايو توقيف مخلص جمركي قام باختلاس مبلغ 44 ألف دولار أميركي. وبحسب المحامي علي عباس من "مرصد مكافحة الفساد" فإن "التهرب الجمركي، معطوفاً على التهريب، من أبرز منافذ الفساد في لبنان، حيث تنتشر في المرافئ البحرية والبرية والجوية، عملية الغش بالبيانات الجمركية وإدخال البضائع على أنها بضائع معفاة من الرسوم"، ويتواطأ موظفون مع مستوردين "مما يؤدي إلى حرمان الدولة من مداخيل مالية كبيرة"، معتبراً أن هناك ضرورة لإصلاح قانون الجمارك، وتشديد العقوبات على الموظفين والمخالفين. ويحمل عباس الدولة مسؤولية "التهريب على المعابر الشرعية وغير الشرعية"، ويعد ضبطها أمراً ضرورياً لتأمين التوازن المالي للدولة، إذ إنه "حالياً يأتي ثلثا مداخيل الدولة اللبنانية من الرسوم الجمركية والضرائب"، كما سلط الضوء على "الفساد على مستوى الأشغال العامة والمناقصات التي يحصل عليها النافذون بسبب المحسوبيات ونظام المحاصصة، والتلزيمات التي تحصل من دون دراسات جدوى اقتصادية".
صدمة الفضائح العقارية
منذ أيام فوجئ الرأي العام اللبناني بفضيحة الضم والفرز في بلدة مزيارة اللبنانية (شمال)، حيث انتحل قاضٍ متقاعد شخصية زميل له من أجل البت بملفات عالقة بصورة غير قانونية. وشكل الملف مناسبة لإعادة التذكير بالمخالفات العقارية في البلاد، ومنصة للتشكيك بنزاهة موظفي القطاع العام في لبنان، وإن كان في ذلك ظلم كبير لكثر من الموظفين الأكفاء. ويعتقد المحامي علي عباس أن "ثمة حاجة إلى محاربة الفساد القضائي في لبنان"، متحدثاً عن "جرم جزائي مكتمل العناصر إلى جانب استغلال النفوذ".
ويعطي عباس الأولوية لمكافحة الفساد في الإدارات التي تحتك مباشرة مع المواطنين، وتحديداً "النافعة"، أي "هيئة إدارة السير والمركبات والآليات" لأن "ضبطها يؤمن واردات كبيرة جداً"، إضافة إلى الدوائر العقارية والسجل التجاري والدوائر الضريبية التي تتقاضى أموالاً مباشرة من المواطنين لمصلحة الدولة، معتبراً أن الإصلاح "هو مدخل لإعادة ثقة المواطن والمجتمع الدولي بالمؤسسات العامة وجذب الاستثمارات الأجنبية".