ARTICLE AD BOX
قيس قاسم
تُحقّق المخرجة السلوفينية أورشكا جوكيتش (1986)، في فيلمها الروائي الطويل الأول "فتيات المشاكل الصغيرة" (2025)، الاستكمال المطلوب لتجسيد رؤيتها لمفهوم الجنسانية، الذي اشتغلت عليه سابقاً في فيلم التحريك/الوثائقي القصير "الحياة الجنسية للجَدة" (2021)، وعالجته من منظور سينمائي يتعامل مع الجنس بما هو موضوع مُعقّد ومُتشعّب، لا يمكن حصره بالرغبات والغرائز الطبيعية فقط، إذْ يتعدّاها إلى تشابكات دينية واجتماعية، والعلاقة بين الرجل والمرأة حاضرة دائماً في وسطها، وتشغل مرحلة المراهقة مفصلاً مؤثراً فيها.
ربما ليس في كل هذا التناول جديد، لو جاء في سياق اشتغال سينمائي تقليدي، يُعطي للمشاهد الجنسية مساحتها الكافية للتعبير عن العواطف والانفعالات النفسية والجسدية، الحاصلة طبيعياً في العملية الجنسية، استجابة لمنح المشهد المنقول لها مصداقية وعمقاً حسياً. لكنْ، ماذا لو حاول السينمائي تشذيب المشهد الجنسي من تعبيراته الصريحة، والالتفات بدلاً من ذلك إلى الجوانب الحسية الداخلية، المتأثّرة بالمحيط العام/الخارجي، الذي لا يزال يتحكّم بالمجتمع السلوفيني إلى الآن، كما في فيلمها القصير، وتكتمل فصوله في منجزها الأخير، الفائز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد ـ فيبريسي"، في الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)".
في فيلمها القصير، تُكثّف شهادات مجهولة المصدر لنساء سلوفينيات، جمعتها الكاتبة ملينا ميكلافيسك في كتاب "النار والحمار والثعابين ليست ألعابا". نساء يحكين تجاربهن الحياتية في مرحلة تاريخية، شهدت تعامل المجتمع السلوفيني مع النساء بوصفهن كائنات خُلقن لخدمة الرجل، وإشباع رغباته الجنسية، ورعاية الأطفال. يظهر ذلك في رسومات متحرّكة وصُوَر فوتوغرافية تُعبّر عن تجربة الجدة فيرا مع زوجها، وكيف واجهت ضغوطاً هائلة، حين أرادت استراحة من عملية إنجاب الأطفال المتواترة، المنهكة لها جسدياً ونفسياً.
النظرة المجتمعية المُحافظة، والإحساس بالذنب والخطيئة، عنوانان بارزان في مسار الحكاية الموجزة لشريحة اجتماعية، عاشت في مرحلة تاريخية يُفترض بالدول الأوروبية الشرقية، المارّة بها، أنّها قطعت شوطاً في ليبراليتها، ومنحت مساحة أكبر من الحرية للمرأة. لاستكمال نقل ذلك المشهد المجتمعي، يُرَحِّل النص الروائي حكاية الجدة، تخيّلاً، إلى الحفيدة لوسيا (16 عاماً)، لتواصل مطلوب يُثَبِّت رؤية صانعته للمحركات الفاعلة في تحديد الموقف من المرأة، ومن جسدها. لا تتأخّر حكاية الصبية في كشف التحفّظ الأخلاقي، الذي تواجهه من والدتها لحظة رؤيتها لها وهي تخرج من مدرستها التابعة لكنيسة كاثوليكية، وظهرت على شفتيها آثار أحمر شفاه خفيف. الإحساس بالذنب والخطيئة على فعل بسيط، تجسّده تعابير وجه الصبية، الحائرة بين فعل عفوي ورد فعل صارم. ستظلّ تلك التعابير، المُعبّرة عن حالة التردّد والاضطراب، حاضرة في مسار الحكاية، متقطّعة المسارات، ومُرتبكة الترتيب توافقاً مع مرحلة مراهقة مضطرّبة، لا مُستقرّ لها.
مشاركة لوسيا مع زميلاتها في رحلة كورال المدرسة الدينية إلى دير بعيد، عند الحدود الإيطالية، يعطي للسرد مساحة أكبر، يمكن عبره التعمّق في بحث العلاقات العاطفية بين الجنسين، وتقريب الشعور الجنسي المتدفّق في أجساد صبايا، يرغبن في اسكتشاف أجسادهنّ، واكتشاف جسد الآخر/الرجل، الذي تُنهي راهبات المدرسة عن الاتصال به. آنا ماريا (مينا شفايغر)، من بين زميلاتها، الأجرأ والأكثر تعبيراً صريحاً عن العلاقة بين الرجل والمرأة. تقترب منها بتحفّظ، مع فضول لكلّ ما تقوله عن العلاقات العاطفية والجسدية. في المكان المغلق، هناك عمّال بناء ينجزون أعمالاً في الدير، وإلى جانبهم مُدرّس الموسيقى والمشرف على جوقة الإنشاد وتدريباتها، المُضمر بسببها في داخله اضطراباً جنسياً، لوجوده بين صبايا معاصرات، يرتدين ملابس صيفية خفيفة، وتنانير قصيرة، الوقت كلّه.
من وجود الجوقة في مكان بعيد عن رقابة العائلة، تتشكّل علاقات عاطفية مُتخيّلة، لا ترتقي إلى تواصل جسدي. مع ذلك، تترك إحساساً بالخطيئة عند الفتيات. هناك تناقض صارخ بين مظهر متحرّر وموقف محافظ، تتسرّب علامات وجوده في أفعال محتارة بين فضول متأت من حاجة جسدية ملازمة لمراهقة، وتحفّظ ديني يتجاهلها. موهبة التعبير عنها، تمثيلاً، حاضرة عند لوسيا (أداء رائع ليارا صوفيا أوستان).
هذا يُحيل النص السينمائي إلى معاينة عميقة لموضوع شائك، يبدو من يعمل على تجسيده سينمائياً كأنّه عالِم نفسيّ أو اجتماعي. هنا، يُطرح سؤال السيناريو (كتابة جوكيتش ومارينا غومزي)، وأهمية أنْ تتوافق كتابته بصرياً مع الموضوع المقترح (كونسبت). إلى السينما، يُمكن نقل أفكار وموضوعات إشكالية كثيرة، لكنّ قلّة منها يحالفها الحظ، فيتناولها سيناريست جيّد ومخرج موهوب يعرف كيف يُحوّلها إلى مُنجز بصري مُهم.
ذلك ما يُوفَّق به "فتيات المشاكل الصغيرة"، ويجعله أحد النصوص السينمائية الحصيفة، المُعالِجة لموضوع مُعقّد مثل الجنسانية، والتحفّظات الاجتماعية الملازمة لها، والمنقولة فيه باشتغالات جمالية تطرح أسئلة، لم تنقطع، عن العلاقة بين الشكل والمضمون، ومتى يحدث التوافق المطلوب بينهما، كالحاصل مع مخرجة وكاتبة نصّ سينمائي رائع.
The post "فتيات المشاكل الصغيرة" لأورشكا جوكيتش: نصّ سينمائي حصيف appeared first on جريدة المدى.