عيسى مخلوف.. دفاتر شاعر باريسي

4 hours ago 3
ARTICLE AD BOX

في كتابه "قوت الأرض والقوت الجديد"، يكتب الأديب الفرنسي أندريه جيد قائلاً: "لتكن الأهمية في نظرك، لا في الشيء الذي تنظر إليه". تصحّ هذه العبارة في كتاب الشاعر والأديب والأكاديمي اللبناني عيسى مخلوف "باريس التي عشتُ، دفتر يوميات" (2025)، الصادر عن منشورات "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، والذي نال جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة في سلسلة "سندباد الجديد" التي تحتفي بأدب الرحلة وتتطلع من خلال الأمكنة إلى "استكشاف طبيعة الوعي بالذات والآخر".

ينظر مخلوف في كتابه، بكثير من الأهمية، إلى أيامه الباريسية، و"بعيون أخرى" على ما يقول الاستشهاد البروستي الذي يفتتح به الكتاب، مازجاً في نظرته الذاتي والموضوعي، الواقعي والمتخيَّل، بحيث باتت أصداء المكان المرئي تتردد في نفسه. هكذا أصبحت الأمكنة كثيرة في المكان الواحد، وانبسطت اليوميات الباريسية الممتدة في الذاكرة في نصوص اكتسبت سحرها، لا من الأمكنة ذاتها فحسب، بل من أناس صنعوا فيها ذكرياته. فباتت كالمنازل التي تترك بصماتها في النفس، لارتباطها بأديب أو مفكر أو شاعر أو فنان أو لوحة أو منحوتة أو قصيدة أو حديقة غيّرت نظرة مخلوف للمدينة التي يعيش فيها ويطلّ منها على العالم. ألم يقل لنا هايدغر إن جوهر الإنسان يكمن في كونه موجوداً في مكان يشعر به؟

الكتاب امتداد لكتابين سابقين: "تفاحة الفردوس: تساؤلات حول الثقافة المعاصرة" و"ضفاف أخرى"، ولا سيما الفصل المعنون "باريس مسرح الحياة المكشوف". كأن الكاتب يختتم به ثلاثية ترصد، منذ أواخر القرن الماضي، تغيّر مدينة كانت "تتوهّج على المستويين الثقافي والإبداعي وتتعدّد فيها روافد الآداب والفنون، وتصبّ في فضائها الواسع آتيةً إليها من جميع الأماكن، بما فيها العالم العربي، قبل أن يخفت صوت الفكر على المستوى العالمي، ويتراجع الحسّ النقدي، وتتلعثم الآداب والفنون تحت ضربات المال المنتصر الذي يلغي كلّ ما يتعذّر تسليعه وتحويله أداةً للمنفعة المادية"، على ما يكتب في مقدمة الكتاب.

انطلاقاً من تصوّر أول، يخطّ عيسى مخلوف صورة باريس مدينة الحرية والحياة الفكرية والثقافية وميادينها الإبداعية في الفنون والآداب والفكر والعلوم، التي عرفها منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، وتسنى له فيها لقاء كُتّاب وشعراء عالميين وباحثين فرنسيين تعرّف عميقاً إلى نتاجهم، وعقد أواصر صداقة مع بعضهم. لكنه يتحدث عنها أيضاً وهي واقفة اليوم على مفترق عالم يتراجع فيه الاهتمام بالثقافة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، التي أصبحت، بالنسبة للبعض، سلعة وأداة إلهاء وتسلية، أو من لزوم ما لا يلزم. ففي العاصمة الفرنسية، بدأت منذ فترة بعض المجلات الفكرية بإغلاق أبوابها، وبعض دور النشر والمكتبات تتحول إلى متاجر ومقاهٍ فاخرة، في استجابة لسلطة رأس المال الذي بدأ يستولي على روح المدينة.

اقتفاء أثر المدينة في تكوين الكاتب الثقافي والفكري

أمام هذه التحوّلات الجذرية والتحديات المتسارعة، يتساءل عيسى مخلوف عن جدوى الكتابة في زمن بدأت فيه ملامح باريس الثقافية تتغيّر. لكنه، في لحظات الشك والتعثّر، يعود ليراها ملاذاً ومساراً يُفضي إلى عوالم تربطه بما تبقّى من روح المدينة التي كانت ذات يوم عاصمة للفن والشعر والأدب والفلسفة.

فالكتابة، بالنسبة إليه، شرارة تُشعل الكلمات، تلك التي وصفها هايدغر بأنها "بيت الكينونة أو الوجود"، فتحوّلها إلى تجلّيات حيّة تنعش ما أوشك أن يذبل في مدينة خفت فيها النور الذي لطالما تميّزت به.

ومن خلال دفتر يومياته، الذي يشبه حدائق نثرية، يدوّن مخلوف تجربته، جامعاً بين جمال اللغة، وعمق الفكر، ووهج الذكريات التي تركتها باريس في أعماقه. 

ويخالف مخلوف الجغرافي الفرنسي بول فيدال دولابلاش، الذي يتحدث عن الأماكن بوصفها جغرافيا لا علاقة لها بالبشر، يؤكد أن الأماكن لا تنطق بذاتها، بل بناسها، إن تغيّروا تغيّرت. هكذا يبدأ الشاعر دفتر اليوميات بمقدمة يصف فيها ما يجري من حوله في العاصمة الفرنسية، منذ وصوله إليها قادماً من فنزويلا، حيث هرب من أتون الحرب الأهلية المستعرة في لبنان، لمتابعة تحصيله العلمي في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية. فأصبحت مقرّ إقامته ومنطلق أسفاره ومقرّ عمله في الصحافة والإعلام، ما أتاح له لقاء "أدباء وفنانين ومفكرين فرنسيين وأوروبيين وأميركيين لاتينيين، فضلاً عن مثقفين وكُتّاب عرب يقيمون في المدينة" أو مرّوا بها.

باريس عيسى مخلوف ليست مجرّد إطار جغرافي جميل تقع فيه الأحداث. فقد شكّلت هذه المدينة الحيّز الأساسي الذي دخل فيه الكاتب في تفاعل ديناميكي مع محيطه، وأضحت شاهداً فاعلاً على تجليات حياته، ومسرحاً تجري على خشبته لقاءات وتجارب تركت بصماتها على مسيرته الأدبية والفكرية.

ففي شوارعها ومحترفاتها وصالاتها، رافق عيسى مخلوف إيتل عدنان وسيمون فتّال وصليبا الدويهي وشفيق عبود وآدم حنين، وفيها التقى إدوارد سعيد وسعد الله ونوس، واستمع إلى محاضرات ميشيل فوكو وكلود ليفي ستروس ورولان بارت وجاك بيرك وإيف بونفوا وأندريه ميكيل، وصادق صلاح ستيتيه وأدونيس ومحمود درويش وفاروق مردم بك وأمجد ناصر، وقابل بورخيس، وراسل فيليب جاكوتيه، وقرأ مارسيل بروست وسواهم.

وقد خصّ مخلوف كل واحد من هؤلاء الفنانين التشكيليين والشعراء والأدباء والمفكرين والأكاديميين بفصل ضمّنه آراءهم وأفكارهم وتجربتهم الفنية، ومواقفهم من القضايا الإنسانية الكبرى، كالقضية الفلسطينية، والحروب، والهجرة، والمنفى، والرأسمالية، والحب، والصداقة، والموت، والمثاقفة، والعولمة، والشعر، والأدب، وغيرها. فإذا بكتابه رحلة في مسرى حياة كل واحد من هؤلاء، وفي رؤيته لنتاجهم انطلاقاً من انشغالات ذاتية.

لعل دفتر يوميات عيسى مخلوف الباريسية ذريعة للتفكير في إسهامات هذه الوجوه والأسماء في الثقافة والفكر والرسم والنحت والعلوم الإنسانية. لكنه، في الوقت عينه، سيرة ذاتية تفيض بالومضات، وتمزج بحرارة خفية بين حكايا من مرّوا في حياته، والمواقف التي شهد عليها. إنه تداخل جميل بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية، والدراسات الأدبية والفنية، والقراءات المتأنية لبعض القضايا الفكرية الكبرى، ما يجعل من الكتاب مرجعاً في فكر ونتاج كل اسم من الأسماء الواردة فيه، ولو انطلق من تجربة شخصية.

كلّ فصل من فصول "باريس التي عشت" تبحّر في سؤال، يبدأ من مكان، لينفتح انطلاقاً منه على أسئلة لا حصر لها، تنصهر في معالجتها معارف الكاتب ومواقفه وآراؤه المقيمة على تقاطع الثقافات والحضارات.

هكذا نقرأ ما كتبه مخلوف عن جان جينيه "اللقيط والمنبوذ والمجروح في الوجود"، ورواياته ونصوصه الإبداعية كـ"أسير عاشق" أو "أربع ساعات في شاتيلا" الذي وضعه إثر زيارته المخيّم بعد المذبحة المقيتة برفقة مندوبة فلسطين السابقة في فرنسا ليلى شهيد، التي تعرّف مخلوف إليها، والتي ارتبطت بعلاقة صداقة مع أدباء كجينيه ومحمد برادة ومحمود درويش، والتي تحدث مراراً معها عن الأديب الفرنسي وما أثاره نتاجه، الذي خصّه كبار الفلاسفة كجورج باتاي وجان بول سارتر وجاك دريدا بدراساتٍ معمقة.

ونقرأ أيضاً ما كتبه عن إدوارد سعيد، الذي التقاه في باريس، مناقشاً إياه في قضايا الاستشراق ومفهوم الشرق والغرب والاستعمار، وتعرّفه إلى الروائية الجزائرية آسيا جبار التي أصبحت عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وأحاديثهما، انطلاقاً من رواياتها ونصوصها الأدبية، عن المرأة والحب والهوية والمكان الضائع، وحواره مع الكاتب والشاعر والمترجم الأرجنتيني بورخيس حول مجموعاته القصصية التي تتصل بموضوعات مثل الأحلام والمتاهات والمكتبات والمرايا والأساطير والشعر والعمى، مستكشفاً حبكات رواياته وأفكاره ونظرته إلى نفسه والعالم، وعلاقته بالموروث العربي، لا سيما بكتاب ألف ليلة وليلة.

هذه الرحلات في سِفْر الآخرين ووقع كتاباتهم في الذات، يسكبها عيسى مخلوف بلغة أثيرية يتكثّف فيها النور، ولو تناولت موضوعات التقنيات وثورة المعلومات والمجتمعات الاستهلاكية وآخر منجزات التطبيقات الإلكترونية في زمن سطوة المال والعولمة.

منذ الكلمة الأولى التي يفتتح بها كتابه، حتى الملاحق التي ضمّت مختارات من قصائد لشعراء فرنسيين أو عرب كتبوا باللغة الفرنسية، ترجمها مخلوف، فضلاً عن لوحات ورسوم ورد ذكرها في الكتاب شكّلت جزءاً من ذاكرته، لكنها طرحت السؤال عن الفن والجمال ومعناهما في زمن التغيّرات والتحولات، يضع مخلوف قرّاءه في ألفة ضوء يتناثر هنا وثمّة.

نثر يتحرك بين السيرة الذاتية والفلسفة والشعر والفن

نقرأ كتابه الذي يصعب حصره في تعريف، من أوله إلى آخره، أو من آخره إلى أوله، فنجد أنفسنا أمام تجربة داخلية وتأملات فلسفية ومحاورات ونصوص نقدية أدبية وفنية، تتحرك بين السيرة الذاتية والفلسفة والشعر والسياسة والاجتماع وكل الإبداعات الثقافية، التي ينهل منها مادة أدبه وشعره وآرائه على حد سواء، ما حوّل الإقامة الباريسية إلى اكتشاف للذات، نخرج من بريقها ممتلئين وهجاً.

سرّ الكتاب قوله إن المدينة تحتضن العالم، وإن النفس لا نلقاها إن انعزلنا والتصقنا بالأرض التي نشأنا عليها. فالمدى جزء من كينونتنا، التي نلتقطها في وجوه الآخرين، وفي خبراتهم وأفكارهم وتساؤلاتهم المصيرية، وسط سعير التصادم بين ماضٍ جميل وآتٍ بدأت تباشيره المقلقة تلوح في الأفق، وعلى رأسها تغيّر المعنى الثقافي وموقع الأدب والشعر والفكر والفنون في العالم.

على هذا الصعيد، يتبدى سفر عيسى مخلوف ويومياته، إذن، امتداداً نحو الآخر والعالم والفكر والفن. إنه رحلة بين الشرق والغرب، وحجّ إلى الذات، مبتغاه عند من تعاطى الشعر، حَمَل قرّاءه على الاتصال بالمطلق، في تجاوز مستمر للنفس المتغيّرة على وقع موسيقى أو مشاهدة فيلم أو التأمل بمنحوتة أو لوحة أو قصيدة أو لقاء أشخاص كشفوا أمامه ما كان يطالعه دوماً ولا يراه.

 

* كاتبة وأكاديمية من لبنان

Read Entire Article