عن مفهوم مصلحة العراق

3 days ago 3
ARTICLE AD BOX

 د. عدالت عبدالله

عن جريدة الصباح

لا شكّ أننا لا نشاطر أي منطق يؤطر المفاهيم ويضفي عليها طابعًا جوهرانيًا غير قابل للنقاش والفحص والنقد البنّاء، فالمفاهيم، في نهاية المطاف، مرتبطة بعقول وتصورات وفرضيات تتحكم بها أسباب وعوامل شتى، لكلٍّ منها استحقاقه ومشروعيته التي لا يمكن إقصاؤها. أي إن المفاهيم، أساسًا، تعيش على أرضية غير مستقرة، متغيرة ومتبدّلة بتغيّر الزمان والمكان، فضلاً عن تغيّر الأحوال والأفكار. كما أنها تتمظهر ضمن إبستمولوجيا معيّنة، أي في سياق الشروط التاريخية التي تحدد إمكانات المعرفة في حقبة معينة، كما يقول ميشيل فوكو. وهذا يعني أنها متعددة التجلي، متباينة في التقدير والتسويغ من كائن لآخر، ومن جهة لأخرى. وهذا، في تقديرنا الفكري، هو مفهوم “المفهوم” بعينه.

أما فلسفيًا، فنجد المفهوم عند دولوز في صياغة أكثر تعقيدًا مما هو متداول، إذ يعتبر الفلسفة، في جوهرها، خلقًا للمفاهيم. وبهذا المعنى الدولوزي، فإن “المفهوم ليس شيئًا نكتشفه في الواقع كما هو، بل هو اختراع فكري يستجيب لمشكلة معيّنة”. وهذا ما نؤوله هنا على أنه تعبير عن نسبية المفهوم، وضرورة التخلي عن فكرة التمسك به كحقيقة ممثلة للواقع، أو كحقيقة نهائية من الحقائق.

ويقول الفيلسوف جيل دولوز في هذا الشأن، في كتابه المعنون ما الفلسفة؟ الذي ألّفه مع فيليكس غاتاري، إن “المفهوم لا ‘يمثّل’ الواقع أو يعكسه، بل ينتج واقعه الخاص ويقوم بوظيفة إنتاجية (إبداعية)، لا تمثيلية”. وهنا تبرز أهمية المفهوم بوصفه فعلًا إبداعيًا، وإمكانًا لتوحيد الاختلافات الفكرية إذا ما قُورب من زاوية حقائق يتقاطع عندها العديد من الناس، وتشكل بينهم نوعًا من الإجماع، بغض النظر عن اختلافاتهم الفكرية والسياسية والمعنوية.

مفهوم “مصلحة العراق” هو من أكثر المفاهيم جذبًا، نظريًا وشعاراتيًا، في الخطاب العراقي؛ إذ إن الجميع يتحدث باسمه، ويحمل رايته، ويشرعن به وجوده. ومع ذلك، ما نخسره دومًا، وما نعجز عن تحقيقه باستمرار، هو مصلحة البلاد والعباد ذاتها! فهذا المفهوم، من دون شك، مركزي في الفلسفة السياسية والثقافة الشعبية الشفهية العراقية، لكنه محاط في الآن ذاته بسيل من المفاهيم الفئوية العاجزة، التي تختزله في مصالح طائفية أو قومية، أو مناطقية أو قبلية. وكلّها، في النهاية، لا تشكل إلا مصادر تهديد للمصلحة الوطنية، وأسبابًا في إجهاضها.

بمعنى آخر، إن التفضيل الواعي أو غير الواعي للمصالح الثانوية على حساب المصالح العليا، التي تُعنى بأمر الجميع وتستوعبهم كحضور إنساني ومجتمعي غير قابل للنفي أو الاستبعاد، هو بمثابة عداء صريح لكل من يسهم، بعقلية منفتحة وغير دوغمائية، في إنتاج مفهوم شامل للمصلحة الوطنية. وهو عداء ضد من يسعى لصون البلد من شرور الفتن والصراعات، التي تتسلّح دائمًا بمفاهيم عقيمة وبالية، لا تُقصي من يخضع لها إكراهًا، بل تُقصي من يرفض تأليهها، وتحاول تكريسها كـ”مقدسات” تُستخدم لشرعنة السياسات والممارسات والمواقف القائمة على المصالح الطائفية والفئوية والشخصية.

Read Entire Article