طفل في حضن أبيه يلهم شوبرت موسيقى مفعمة بالحياة

6 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">لوحة من وحي أغنية شوبرت الليلية (موسوعة الفن الكلاسيكي)</p>

خلال 10 أعوام من حياته، لحن فرانز شوبرت نحو 600 أغنية، كما أكمل كتابة تسع سيمفونيات، إضافة إلى واحدة ظلت ناقصة لم تكتمل، على عادة ما يحدث عادة من عجز كثر من الموسيقيين عن الوصول إلى إنجاز سيمفونية عاشرة في مسارهم المهني! لأن هذا الموسيقي النمسوي مات بغتة وهو في الـ31 من عمره، مما أبقى كثيراً من مشاريعه طي الغيب ومنها تلك السيمفونية التي عرفت منذ ذلك الحين بـ"غير المكتملة"، وصارت تقدم هكذا على حالها لتشي بذروة ما وصلت إليه عبقرية ذلك الموسيقي الشاب الذي كان من سوء طالعه، أنه عاش في الزمن نفسه، وفي المدينة عاش، وعرف خلال العقدين نفسيهما اللذين عاش فيهما بيتهوفن، الذي ألقى ظلاً كثيفاً على شوبرت وجعله نسياً منسياً طوال حياته، وأعواماً بعد موته.

غير أن مرور الأعوام كان لمصلحة شوبرت، إذ إن موسيقاه عادت واكتشفت لاحقاً وأعيد إلى فنه الاعتبار. صحيح أن هذا لم يبد سيمفونياته على سيمفونيات سلفه العظيم، وصحيح أن عبقريته لم تقارن أبداً بعبقرية معاصر آخر له، تقريباً، هو موزارت، في مجال كتابته الموسيقى الخالصة. ولكن، في الأقل، جرى التعرف إلى إبداع شوبرت في تلحين الأغاني، بل اعتبر أول وأكبر ملحني الأغاني في اللغة الألمانية على طول الأزمان. وهكذا وجد لذلك المبدع الذي نشأ فقيراً ومات معدماً، مكان تتميز فيه عبقريته. ومن دون أن نزعم هنا أن سيمفونيات شوبرت عاجزة حقاً عن مضاهاة أعمال بيتهوفن وموزارت، يمكننا التوقف عند تلك الروعة التي ميزت أغنياته جاعلة منها، وحتى يومنا هذا، من أكثر المؤلفات الموسيقية حيوية وحضوراً في تاريخ الموسيقى الغربية.

 

وغضبت أميرة العفاريت

وحين يتحدث المرء عن أغنيات شوبرت، لا يسعه إلا أن يتوقف أولاً عند الأغنية الكبيرة الأولى التي لحنها، وكانت ثاني عمل موسيقي جاد له، بعد سيمفونية أولى عاشت على رغم اعتبار بعض الباحثين لها، مجرد تجربة. أما الأغنية الكبيرة الأولى فكانت "ملك الألف"، والألف في الأساطير الجرمانية القديمة عفاريت "غنائية" تعيش فوق الغابات ترقص وتلهو في الليالي داعية الناس إلى حتفهم. الأغنية التي أبدعها شوبرت، وتعتبر على الدوام قمة في ألحانه الغنائية، على رغم أنه كان، بعد، في الـ18 حين لحنها، مقتبسة، ليس من النص الأصلي الدنماركي للأسطورة، بل من التنويع الذي وضعه الشاعر والكاتب الألماني غوته عليها، وهذا التنويع يختلف عن الأصل اختلافاً كبيراً. ففي الأصل، الذي ترجمه هردر إلى الألمانية (ما أمن له انتشاراً واسعاً بعدما كان محصوراً في الفولكلور الدنماركي)، لدينا المخلوقات الشيطانية ترقص ليلاً، كعادتها في غابات "الحور" (ومن هنا العنوان الفرنسي). ولدينا السير أولوف الذي يقوم بنزهته الليلية المعتادة عشية عرسه، ويحدث له، خلال تلك النزهة، أن يلتقي عرائس الألف، فتدعوه ابنة ملكهم إلى الرقص لكنه يرفض ويكرر رفضه مرات عدة. وعند ذلك تغضب الفتاة وتخبطه على مكان القلب منه، ثم تضعه فوق سرج حصانه من دون حراك وترسله إلى دياره. وعند صباح اليوم التالي، حين تصل خطيبة أولوف إلى داره ومعها المدعوون إلى العرس، يفاجأون بالعريس ميتاً خلف ستارته الحمراء.

تغييرات غوته

كان هذا المناخ نفسه وعناصره الأساسية ما استعاره غوته لكي يكتب قصيدته عام 1782، لكنه بدلاً من الأحداث والشخصيات في شكل جذري، إذ لدينا، هذه المرة، أب يجتاز الغابة فوق حصانه على عجل، خلال الليل، وهو يحتضن بين ذراعيه طفله المريض. ويحدث للطفل هنا أن يشاهد ملك الألف فيبدأ بالارتعاد خوفاً لدى مرآه، فيما الأب يسعى جهده إلى تهدئة الطفل مؤكداً له أنه في الحقيقة لا يرى شيئاً، بيد أن الفتى لا يلتفت إلى محاولات أبيه بل يروح مردداً كالمأخوذ كل العبارات التي يقولها له الملك الشيطان... ويزداد رعب الفتى. وهو إذ يجد نفسه محاطاً بالتهديدات من كل جانب، يبدأ بالصراخ متصاعداً فيه تدريجاً حتى يطلق أخيراً صرخة رعب ووجل: لقد مسه الملك في شكل مباشر. ولا يلبث هذا الرعب أن ينتقل إلى الأب، لكن هذا الأخير يواصل خببه، حتى يصل عتبة بيته، ليكتشف هناك أن ابنه بات جثة هامدة... ولئن لم يكن شوبرت هو أول ملحنيها، إذ سبقه إلى ذلك عدد من الموسيقيين الذين فتنهم مناخ الرعب والحنان الطاغي على نص غوته، فإن نسخة شوبرت، التي أنجزت عام 1815 ظلت الأشهر والأبقى، والأقوى أيضاً في المقاييس كافة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قوة درامية استثنائية

فالحال أن شوبرت، في عمله المبكر هذا، عرف كيف يسبغ على تلحينه القصيدة قوة درامية لا سابق لها في الغناء، كما زود العمل كله بمؤثرات فريدة من نوعها، إذ نجده يهتم موسيقياً بالتفاصيل، وبما تبديه الطبيعة الليلية في الغابة من أجواء مرعبة، كذلك تمكنت موسيقاه من أن تصور، وفي صورة مذهلة، كل تلك العواطف والمخاوف وضروب التهديد، التي ليست في حقيقتها خارجية بل داخلية، إذ إن الموسيقى عرفت، في نهاية الأمر، كيف تعبر عن ذلك الموت الذي هيمن على رحلة الأب وطفله الليلية، من دون أن تبتعد، تعبيرياً، من الأمل الذي يعتمل في فؤاد الأب وهو يهرع بغية إنقاذ ابنه قبل أن يكتشف، في نهاية الأمر، أن الأمل كان مفقوداً منذ زمن، وأن ما يحمله بين يديه ليس ابنه وإنما جثة ذلك الابن. وصحيح هنا أن آلة البيانو هي التي شكلت، وحدها، الخلفية الموسيقية، لكن شوبرت عرف كيف يزاوجها مع الأصوات الثلاثة الحاضرة، متفرقة حيناً، مجتمعة حيناً: صوت الطفل وهو يهذي طوال وقت كان فيه لا يزال، بعد، حياً، وصوت الأب العريض، الذي لا يسعى إلا إلى إبعاد الأشباح من طريق محو رؤى ابنه الهاذية، وأخيراً صوت ملك "الحور" الرتيب، القاسي، والساحر في الآن عينه.

قطعة من ليل بهيم

واللافت، في هذا العمل ككل، هو الاندفاع الذي يهيمن على اللحن، على وقع خطوات الحصان ونبضات قلب الأب والابن، وأيضاً صوت الملك اللاحق بهما طائراً، حتى وصول اللحن إلى نهايته المنطقية مع مشهد الموت. وقد عبر المفكر العربي الراحل حسين فوزي باستفاضة ودقة عن أجواء هذه القصيدة حين كتب يقول "يجب أن تسمع هذه الأغنية لتدرك كيف يصور شوبرت كلماتها، والجو الذي توحي به، منذ أول الإيقاعات الهارمونية على البيانو. فهذه قطعة من الليل البهيم، وحوافر الجواد تنهب الأرض خبباً، ووجيب قلب الطفل يفصح عن فزعه المتزايد، وصوت الملك المسحور آت من البعيد خفيفاً وصغيراً. ثم النهاية الفجائية المفجعة، كل هذا في أنشودة لا يتعدى إلقاؤها دقائق، ألفها شوبرت في سن الـ18 في جلسة واحدة".

ولن يكون هذا غريباً، من موسيقي نابغة قيل إنه، ذات مرة، لحن 10 أغنيات في يوم واحد! وقد عرف عن شوبرت أنه، على أي حال، كرس حياته ووقته للموسيقى، منذ تخلص وهو بعد في مقتبل شبابه من عمل التدريس الذي أنيط به، ولم يأبه بعد ذلك بكيف يحصل معيشته. فعاش فقيراً، لكن غناه الحقيقي كان الأعمال الكثيرة التي وضعها والتي خلدته.

ولد شوبرت عام 1797 في فيينا التي عاش بعد ذلك فيها ومات عام 1828. وهو ولد لأسرة مدرسي موسيقى فقراء. والتحق باكراً بالكنيسة في الكورال، ثم درس في المعهد حيث ظهر نبوغه باكراً، مما ميزه عن أقرانه ودفع واحداً منهم إلى الإنفاق عليه. وما إن شب شوبرت حتى بدأ يؤلف، وهو لم يتوقف عن التأليف حتى موته. ويقال إنه، على رغم إعجابه الشديد ببيتهوفن، وعلى رغم أن بيتهوفن كان يعيش في المدينة نفسها، فإن الرجلين لم يلتقيا سوى مرة واحدة، لكنه حين رحل بعدما أصابه داء التيفوس دفن إلى جانب بيتهوفن الذي كان سبقه إلى الآخرة بعامين.

subtitle: 
"ملك العفاريت" قصيدة على إيقاع صخب الغابات الليلي وخفقان القلوب وأصوات الطبيعة الغامضة
publication date: 
الاثنين, مايو 19, 2025 - 13:45
Read Entire Article