صنع الله إبراهيم... سلامتك

3 weeks ago 8
ARTICLE AD BOX

في الأخبار أن صحّة الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم آخذة في الاستقرار، وهذا أمرٌ حسن، وأن الرئيس عبد الفتّاح السيسي يتابع تطوّر أوضاعه الصحّية، بعد توجيهه الجهات المعنية بتقديم رعاية صحّية خاصّة له، وهذا أيضاً حسن، إذ غالباً ما يُترَك الكتّاب العرب في حالهم عندما يتقدّمون في السنّ، ويغرقون في الإهمال إذا تدهورت أوضاعهم الصحّية أو المالية، وكثير منهم يغادر هذه الدنيا وهو شبه مفلس للأسف، وبلا رعاية صحّية مناسبة ولائقة، وإذا وجدوها، فإنّما لوفاء أصدقاء قدامى يصدف أن يكون بعضهم على وفرة مالية أو نفوذ لدى السلطات.

وفي حالة صنع الله، شهدنا تضامناً واسعاً من كتّاب مصريين وعرب، ومن أكاديميين وصحافيين ومعجبين بمنجز الرجل الروائي البهي والاستثنائي، وهو ما لا نجده إلا في مصر التي ما زال دمٌ يجري في عروق أبنائها رغم تدهور أوضاعهم المعيشية، كما بتنا نشهده لدى السلطات العراقية التي تُظهِر اعتناءً خاصّاً بكتّاب بلادها ومثقّفيها، وشهدنا جنازات رسمية لبعضهم، وإن كنّا نتمنى الاحتفاء بهم في حياتهم، بتوفير الحدّ المعيشي اللائق بهم، بينما يُتعامَل مع هؤلاء باعتبارهم عبئاً في كثير من بلداننا العربية.

وقع صنع الله في منزله، والرجل متقدّم في السنّ (مواليد 1937)، فأصيب بكسور في الحوض، وأُضيفت إلى ذلك مشكلات في القلب والكلى ونزيف في المعدة، والأسوأ تغيّر العصر وتدهور القيم في مجتمعاتنا، ما جعل الرجل القوي، الشرس في معارضته، الذي لا تتخيّله إلا ساخراً أو واقفاً على قدميه ومديراً ظهره للجميع، يعود إلى قوانين الطبيعة فيخضع لها، مفارقاً صورته في مستشفى معهد ناصر، ويتلقّى العلاج من منظومةٍ سياسيةٍ لم تتراجع حدّة معارضته لها منذ بداياته المبكّرة في خمسينيّات القرن الماضي.

تميّز صنع الله باستقلاليته وعناده أيضاً، كتب نصوصاً مدهشة، لا في مواضيعها وحسب، بل في تقنياتها أيضاً. سُجن وأُقصي، هاجر وعاد، جرّب وغامر، قبِل ورفض، وظلّ في كلّ أحواله هو نفسه، رجل نحيل بشارب كبير بعض الشيء، مثل إبراهيم أصلان (الأخير وديع بالمقارنة مع صنع الله)، وبقمصان مقلّمة، وبسخرية في ملامحه لا تستطيع تحديدها، وإن كنت تشعر بها طوال الوقت، كأنّما يسخر من الوجود نفسه وتمظهراته في الحياة، من السلطات (والسياسة جزء منها)، ومن مواضعات المجتمعات، كأنما غريبٌ هبط في أرض غريبة، فلم يكفّ عن تفحّص كلّ تفصيل فيها بعمق، ولكن بسخرية من يُفاجَأ بسخفها وابتذالها، أليس هذا شغل الفنّانين الكبار؟

يدين صنع الله إلى السجون بإبداعاته، بعد موهبته طبعاً، وإلى "تلك الرائحة"، أولى أعماله التي صدرت عام 1966، وصودرت على الفور، بمقدّمة من أسطورة القصّة القصيرة العربية يوسف إدريس، الذي اعتبرها "ثورةً"، وليست قصّة، ملاحظاً عن حقّ أن بطلها "ليس الرجل، وليس الشاب، وليست الأحداث أو العصر، بل إحساس عام طاغٍ لا اسم له"، وفي هذه أصاب إدريس، فمن يقرأ صنع الله يجد نفسه تحت ضغط إحساس قاسٍ وملحاحٍ ومتغطرسٍ طوال الوقت، فإذا لم يكن ثمّة من يراقبه فهناك تلك الرائحة التي يتركها خلفه فتشعر بها، أو تلك التفاصيل الدقيقة، التوثيقية، التي تضع قارئها تحت شعور بالاضطهاد فالانفجار في آخر المطاف.

ثمّ هناك حالة اللامبالاة، الثورة السلبية، والشعور باللاجدوى، كأنما الأحداث تقع لشخص آخر، والتأملات الذكية، برقية الحضور في الموسيقى والسينما والأفكار الكُبرى، كأنمّا الكتابة ورشة غير مكتملة رُمي فيها أفراد بؤساء، كان عليهم أن يعانوا، لأن هذا ليس مكانهم مهما حاولوا الانتماء إليه.

روائي هذا شأنه، وهو من أهم روائيّي ما بعد نجيب محفوظ في النثر العربي، ظلّ طوال حياته خارج المنظومات، عام 2003 رفض جائزة الرواية العربية على الهواء مباشرة، أما كان عليه أن يقبلها (على الأقلّ) لقيمتها المادّية الكبيرة، وهو يحتاج المال، أو كرمى لعيون اللجنة رفيعة المستوى التي قرّرت منحه الجائزة (الطيب صالح كان رئيس اللجنة)، لكن نفور الرجل من اللجان، وله رواية بديعة بعنوان "اللجنة"، وأولوية السياسي لديه عما سواه ربّما، وحرصه على ألا يندرج في قالب جاهز، في خانة، في نمط أو صورة، ما جعله نفسه في نهاية المطاف كاتباً كبيراً وفريداً.

سلامتك أيّها الشابّ.

Read Entire Article