سورية التي لا تحتمل إضاعة مزيد من الفرص

3 weeks ago 6
ARTICLE AD BOX

من على منصّة خلال منتدى الاستثمار الأميركي السعودي، أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الثلاثاء الماضي (13 مايو/ أيّار) رفع العقوبات عن سورية: "سأصدر الأوامر برفع العقوبات عن سورية من أجل توفير فرصة لهم للنمو". هذا ما قال الرئيس. ووقف الحضور، بعد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وإيلون ماسك وجيف بيزوس، لتصفّق له. كانت فرحة بن سلمان، الواضحة بشكل جلي في وجهه، لحظةً عاطفيةً قصوى في تأثيرها في نفوس السوريين الذين عبّروا عن شكرهم له. ليسوا وحدهم الحاضرين في المنتدى من وقفوا وصفّقوا، بل غالبية الشعب السوري، ومن يتعاطف معه في هذه المحنة التي استمرّت سنوات طويلة، دفع ثمنها الشعب ولم تؤثّر في النظام، بل لا علاقة لسقوطه بهذه العقوبات الجائرة، هذا هو واقع الحال دائماً، الحكّام يأكلون الحصرم والشعوب تضرس، وليس كما قال ترامب: "كانت العقوبات قاسيةً ومدمّرةً، وكانت مهمّةً جدّاً في ذلك الوقت، ولكن الآن، إنه وقتهم كي يتألّقوا (يقصد السوريين)، أقول لسورية: حظّاً سعيداً".

فور الإفراج عن هذه المفاجأة، اندفعت الجماهير السورية تجوب شوارع المدن، وشوارع الواقع الافتراضي في كل وسائل التواصل الاجتماعي، تعبيراً عن فرحتها، وهل هناك فرح أعظم بعد سنوات عجاف جفّفت عروق السوريين مثلما جفّفت تراب أرضهم، وحرمتهم من نسغ الحياة؟

لقد قدّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أن سورية، بمعدل النمو الحالي، لن تعود إلى مستواها الاقتصادي لعام 2010 قبل عام 2080، فماذا يعني هذا الكلام؟... إنه يعني، بكلّ بساطة، موت أجيال عدّة، زيادةً عمّن ماتوا خلال هذه الحرب اللعينة، ويعني أيضاً عوداً على بدء، وكأنّ الشعب السوري الذي دفع 14 عاماً من عمره من أجل تغيير واقعه والنهوض ببلاده وصون حرّيته وكرامته، قد ذهبت تضحياته هباءً، وعليه البدء من تحت الصفر، بل من تحت الركام. هل يمكن الركون والطمأنينة إلى السياسة الأميركية تجاه سورية، وأنها سياسة واضحة المعالم؟ وهل من الجيّد رفع سقف التوقّعات من إعلان ترامب رفع العقوبات عن سورية، هذا القرار الذي دفعت ثمنه دول الخليج من أجل مستقبل سورية؟... أسئلة كثيرة تدور في الذهن، بعد أن تهدأ نشوة النفوس من سماع الخبر، خاصّة مع هذا التعب والإنهاك الروحي عند الشعب السوري، لكن ليس من باب المصادفة أن يتوجّس السوري من فرحه المفاجئ، أو ضحكته، "ربنا أعطنا خير ضحكنا"، فهناك توجّس من الضحك، الذي هو عنوان الفرح غالباً، فالسوري، خاصّة في جحيم سنوات الحرب، بات يخاف الفرح، يخاف البهجة، يخاف الوعد، يخاف السعادة.

ليس مصادفةً أن يتوجّس السوري من فرحه المفاجئ برفع العقوبات، فالسوري بعد سنوات الحرب بات يخاف الفرح

في الواقع، أمام الحكومة السورية التي تسلّمت بلاداً منهارةً ومجتمعاً منقسماً ومنهكاً، مسؤولياتٌ فائقةُ الجسامة، وهي إن لم تعمل للسيطرة عليها، خاصّة الممارسات التي تضرّ بالسلم الأهلي، فإن الأمان الذي يحتاج إليه النشاط الاقتصادي ورأس المال والاستثمارات لن يتوافر. ومن ثم، لن يحقّق رفع العقوبات المرتجى منه في ما يخص الانتعاش وإعادة الإعمار وعودة الحياة والأمل إلى الشعب السوري. أوشكت الإدارة الجديدة على إكمال نصف عام من تسلّمها الحكم في سورية، لقد عملت بشكل جادّ وحثيث على كسب تأييد إقليمي ودولي، وقامت بنشاط دبلوماسي مكثّف مع الدول العربية وكذلك الغربية، من أجل رفع العقوبات، وهذا جيّد وضروري، وله موقعه المهمّ بين الأولويات في ما يخص نهوض الدولة، فماذا عن المجتمع؟

كان الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا قد خفّفوا بالفعل عقوباتهم، التي شُدِّدت خلال الحرب السورية. ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة تتردّد في اتخاذ قرار، قائلةً إنها تودّ أولاً رؤية كيفية ممارسة القيادة الجديدة سلطاتها، خصوصاً في ما يتعلّق باحترام حقوق الإنسان والأقلّيات. كما قرّر وزراء الخارجية في الاتحاد الأوروبي، يوم الاثنين 27 يناير/ كانون الثاني 2025، تخفيف نظام العقوبات الذي فرضه على سورية منذ بداية الحرب في عام 2011: "لقد توصّلنا إلى اتفاق سياسي للبدء بتخفيف هذه العقوبات"، كما قالت رئيسة الدبلوماسية الأوروبية، كاجا كلاس: "هذا يمكن أن يعطي دفعة للاقتصاد السوري ويساعده على النهوض من جديد".

تنصّ خريطة الطريق التي اعتمدها الوزراء الأوروبيون على وقفٍ تدريجيّ للعقوبات، وفقاً للالتزامات التي تعهّد بها النظام السوري الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع، ولا سيّما في مجالات الحكم واحترام الأقلّيات وحقوق الإنسان. وهذه القرارات قابلة للعكس، ففي حالة التراجع في هذه القضايا، يمكن إعادة فرض العقوبات. كذلك، عند استقباله الشرع في الإليزيه (7 مايو/ أيار الماضي)، طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الشرع "بذل كلّ ما في وسعه لضمان حماية جميع السوريين من دون استثناء، بغضّ النظر عن أصولهم أو دينهم أو طائفتهم أو آرائهم". كما تمنّى أن "يُلاحق ويُعاقب" مرتكبو أعمال العنف ضدّ الطوائف المستهدفة كالدروز، و"المذابح" ضدّ أعضاء الأقلّية العلوية في مارس/ آذار الماضي. فهل الغرب جادّ بالفعل وحاسم في هذه الشروط، أم أن ما يهمّه بالدرجة الأولى تأمين مصالحه في المنطقة؟

رفع العقوبات عن سورية لم يأتِ بسبب الدور الفاعل أو المؤثّر للقيادة السورية الحالية، في السياسة العالمية، بل بفضل جهود ووعود قدّمتها دول الخليج

شكّل قرار ترامب رفع العقوبات ما يشبه بواكير الغيث في نفوس السوريين العطاش، بعد أن تحوّلت حياتهم مساحاتٍ قاحلةً من دون وعدٍ بقطرة ماء، فبمجرّد الإعلان ارتفعت قيمة الليرة السورية أمام الدولار، وراح السوريون يحلمون بانخفاض أسعار المواد، وبأنهم باتوا قادرين على شراء ما حرموا منه طوال هذه السنوات العجاف، وقادرين على الحصول على بديهيات عيشهم من ماء وكهرباء وتعليم ورعاية صحّية، وغيرها. ليس صحيحاً أن بعض السوريين لم يكونوا فرحين من قرار رفع العقوبات، والتفسير أن ذلك بدافع طائفي، في إشارة إلى الأقلّيات الذين لا يتمنّون للقيادة الجديدة النجاح. هذا تفسير قاصر وضارّ في الوقت نفسه، فلدى من لا يفرح بقرار كهذا خلل في محاكمته، في ما لو غضضنا النظر عن عواطفه ونزعاته ومنظومته الأخلاقية، لكنّ الشعب السوري أوشك أن يفقد الثقة في المستقبل، خاصّة أن ممارساتٍ كثيرة تمسّ السلم الأهلي، والاعتداءات التي تصل أحياناً إلى القتل بسبب الانتماء الطائفي، ومحاولات فرض اللون الواحد، بدءاً من الحكومة وتوزيع المسؤوليات، وانتهاء بالسيطرة على المجال العام، ما زال هذا كله مستشرياً في حياة السوريين، ما يعزّز هذه الثقة والأمل الضعيفَين في المستقبل، ويجعل هذه الشريحةَ غير المتفائلة من السوريين ترى أن خطوة رفع العقوبات (المشروطة) من الاتحاد الأوروبي وأميركا، لن تجلب الأمان والطمأنينة إلى نفوسهم، ما لم تغيّر الحكومة من أدائها وممارساتها تجاه ما يحدث. ومن ثم، فإن الأحلام بغد أفضل وتحقيق أحلامهم بعيش كريم افتقدوه، سوف لن تتحقّق.

لقد أشار ترامب في كلمته إلى أنه توصّل إلى هذا القرار بعد "طلبات ملحّة" من مضيفه، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. ما يدلّ على أن رفع العقوبات عن سورية لم يأتِ بسبب الدور الفاعل أو المؤثّر للقيادة السورية الحالية، في السياسة العالمية، بل بفضل جهود ووعود قدّمتها دول الخليج، السعودية وقطر والإمارات، وكفلت النظام السوري معها، والذي تعهّد أيضاً بأن يكون إيجابياً في ما يتعلّق بالاستراتيجية المتعلّقة بالمنطقة، وهذا مؤشّر من المهم أن يبقى حاضراً في ذهن القيادة السورية، مثلما يجب أن يبقى حاضراً أيضاً أنها تحت مجهر المراقبة، وأن الدول الكبرى، والمحيط الإقليمي المؤثّر، الذي أسهم في إنجاح هذا الإجراء، يتابع أداء السلطة في دمشق، ويرصد التقدّم الذي تحرزه في ما يخصّ الشروط التي وضعها الغرب، والتي ستؤدّي في حال تطبيقها إلى إيجاد البيئة الملائمة للاستثمارات ونهوض الاقتصاد السوري، وتحقيق الاستقرار في سورية. سورية لا تحتمل إضاعة مزيد من الفرص.

Read Entire Article