ARTICLE AD BOX
أزّ الرصاص صباح 20 مايو/ أيار الحالي في محيط قاعدة حميميم العسكرية الروسية في ريف اللاذقية في الساحل السوري لتتضح لاحقاً تفاصيل العملية المحدودة بقدراتها وحيثياتها، فقد تحدثت مصادر مطلعة، لم تذكر هويتها لأسباب أمنية، لـ"العربي الجديد" أن مجموعة فردية من "المهاجرين" (غير السوريين) نفّذت هجوماً على قاعدة حميميم العسكرية، أي أن الحادثة وقعت بمبادرة فردية من عناصر "غير منضبطة". عدد المهاجمين أربعة، بحسب قناة ماش الروسية، وقد أدت إلى مقتل اثنين من المهاجمين واثنين من حرس القاعدة.
يكسو هذه العملية غموض يتجلى في أن أربعة عناصر فقط حاولوا اقتحام قاعدة عسكرية محصنة، قد يكون ذلك بدافع الحميّة لتنفيذ عمليات ضد الروس وإجبارهم على الخروج من سورية، فالمنفذون "مهاجرون"، كما أنه لم يصدر توضيح رسمي سوري أو روسي عن ذلك، حتى إن موسكو لم تعلن مقتل عناصر يتبعون لها (حتى الآن).
حميميم نقطة تمركز في الساحل السوري
خفَتَ التحرك الروسي في سورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وانحشر الجنود في قواعدهم بعد تجميع آلياتهم ومعداتهم العسكرية في قاعدة حميميم، وأمسى شغلهم محدوداً ومقتصراً على تنسيق حركة الطيران الروسي التي ما فتئت تقلع وتهبط من دون معرفة ماهية تلك التحركات. اتخذت موسكو تلك القاعدة مقراً لها بعد تدخّلها في سورية إلى جانب نظام بشار الأسد، وإبعادها الطائرات المدنية السورية عن الهبوط فيه، فصار مطار حميميم المدني نقطة ربط لمدها بالذخيرة والسلاح كي تثبّت تمركزها على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، ولا سيما أن القوات البحرية الروسية متمركزة في ميناء طرطوس الذي يبعد عن القاعدة عشرات الكيلومترات فقط.
مجموعة فردية من "المهاجرين" (غير السوريين) نفّذت هجوماً على قاعدة حميميم العسكرية في 20 مايو
في اليوم ذاته (20 مايو) وبعد العملية بوقت قليل، صدرت تصريحات لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، نشرتها الخارجية على موقعها وأوردتها "رويترز"، في حفل استقبال للخارجية بمناسبة عيد الفصح الأرثوذكسي، ركزت على أن "كييف تستهدف الأرثوذكسية الكنسية"، وأن "الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية تضطهدها"، معلناً أن "موسكو تقف إلى جانب الأرثوذكس لاستعادة حياتهم الروحية"، رابطاً ذلك بسورية عندما قال إن "موسكو تشعر بقلق عميق" إزاء ما وصفه بـ"تطهير عرقي تقوم به جماعات متشددة"، مستغلاً التقارير والفيديوهات التي ما تزال تسري عن بعض الممارسات الطائفية أو إهانة المكونات المجتمعية المحلية.
وبحسب ما هو منشور على موقع وزارة الخارجية الروسية، قال لافروف: "الجماعات المتشددة (في سورية) تقوم بتطهير عرقي حقيقي، وعمليات قتل جماعي للناس على أساس جنسيتهم ودينهم"، في إشارة على ما يبدو إلى القوات الحكومية السورية والفصائل التابعة لها، عقب أحداث الساحل السوري وعمليات القتل الطائفي والمجازر الجماعية التي حدثت في مارس/ آذار الماضي، بعد هجوم لعناصر من فلول يتبعون للنظام السابق على حواجز للأمن العام (دُمج مع جهاز الشرطة وصار اسمه قيادة الأمن الداخلي).
يأتي تصريح لافروف حول وقائع الساحل، بعدما أحجمت موسكو عن التصريحات أو الانخراط في الأحداث الجارية حينها، فقد تأخر تعليق وزير الخارجية الروسي حتى 11 مارس عندما وصف تلك الأحداث بأنها "غير مقبولة"، ودعا السلطات السورية إلى أن تضمن عملية سياسية تشارك فيها مكونات المجتمع المحلي جميعها. يبدو تعليق لافروف حيادياً، لم يستخدم فيه ما يُغضب السلطات المحلية ولم يكن بنبرة حادة. أما الآن فقد ارتفعت اللهجة وصارت حادة تصعيدية بعد الهجوم، رغم أن الأحداث الطائفية والانتهاكات تنكمش رويداً رويداً، أو محاولةً الاستفادة من مطالبات بعض علويي الساحل بحماية دولية أو أن يكون نقطة نفوذ تحميهم من القتل العشوائي، بحسب ظنونهم.
سمحت روسيا لآلاف العلويين الفارين من عمليات القتل بالالتجاء إلى قاعدة حميميم كي يحموا أنفسهم، ولا يزالون فيها حتى الآن، إذ تحتفظ بهم ليكونوا عامل ضغط على السلطات السورية وتحصيل تنازلات في الملفات التي تتفاوضان عليها. كانت السياسة الروسية منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 تحاول إرضاء السلطات الحالية، كي تتمكن من الاحتفاظ بقاعدتيها في اللاذقية وطرطوس. وكان لا بد من التصريح بأن موسكو ملتزمة وتؤكد وحدة الأراضي السورية وسيادتها تحت القيادة التي أطاحت حليفها نظام بشار الأسد الذي ترى تحليلات ونقاشات عديدة أن موسكو "باعته".
الأهداف الراهنة لموسكو
أرادت روسيا البقاء في سورية، مقدمة نفسها أنها عامل مساعد في تخفيف التوتر والاحتقان، فانتشارها العسكري في الساحل السوري جاء بناء على طلب بشار الأسد وعبر توافق دولي على هذا التدخّل. ورامت بناء علاقات جيدة مع القيادة الحالية انتهت باتصال هاتفي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والسوري أحمد الشرع في 12 فبراير/ شباط الماضي.
ما الذي يبتغيه وزير الخارجية الروسي الآن بهذا التعليق؟ ارتبطت تصريحات لافروف بالهجوم على قاعدة حميميم، كي يبعث إلى القيادة السورية "تحذيراً" بأن هناك ملفات في يد موسكو تستطيع أن تفتحها وقتما تشاء، وعلى السلطات السورية أن تضمن سلامة القاعدة، وألا تسمح لعناصرها أو لـ"أخرى متفلتة" بالهجوم على المطار الصغير. ولا يُنسى أن التصريحات وردت غداة الاتصال الهاتفي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.
تصريحات لافروف تحذير إلى القيادة السورية بأن هناك ملفات في يد موسكو تستطيع أن تفتحها وقتما تشاء
لو كان الدبلوماسي الروسي متضامناً مع ضحايا العنف لعلّق عليها في ذروتها، أو قدّم وساطات لدى السلطة الحالية في دمشق كي توقف تلك الهجمة. لم يكن لينتظر شهرين حتى يتحدث عنها، ولو جاء تدخّله حالياً من زاوية أنه يريد أن يوصل رسائل لمن يحتمون بالقاعدة من العلويين أو الذين خارجها كي يقول لهم إن روسيا معهم، وتتابع مطالبات بعضهم بالحماية الروسية على الساحل التي ترددت كثيراً بعد أحداث مارس الماضي، لاستغل تلك الفرصة بأنها "نزول عند رغبة من يطالب بها"، أما وأنها جاءت بعد مضي أسابيع، فهي ليست سوى محاولة لتسويق خطة ما أو الحصول على مكسب قد تكون موسكو تحضّر له مستقبلاً.
وبالنسبة إلى طائرات الشحن الروسية، فإنها لا تتوقف عن الإقلاع والهبوط على مدرج المطار، وتتسرب أحاديث كثيرة عن نقل جنود روس إلى قاعدة حميميم. ويتناقل كثير من أبناء القرى القريبة من قاعدة حميميم تحركات لمدرعات روسية وتجوالها حولها وتنظيمها دوريات استطلاعية في المحيط، أو ربما قد تكون تطمينية للأهالي بأن روسيا ما تزال في المنطقة، وقد تتخذ إجراءات إضافية لحمايتهم، مع وجود فصائل في بعض القرى الجبلية التي يشتكي أهلها من مضايقاتهم وتعدياتهم المتكررة على الناس.
وربما تسعى موسكو إلى رسم صورة أنها تريد أن يكون لها نفوذ في المنطقة الساحلية، بعدما يئس الأهالي منها رغم مطالباتهم الكثيرة بذلك، لكن الخطوات التي ترسمها روسيا على الأرض السورية عموماً، سياسياً وميدانياً، تفي أنها تلتمس البقاء في سورية، بل تريد ترسيخ وجودها وتعزيزه، فهي صاحبة اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع النظام المخلوع، لا تريد أن تخسرها، لذا تسعى إلى الإيحاء دوماً بأنها ذات كلمة عليا في الساحل، وأن لها دالّة على العلويين الذين يفضلونها على أي طرف آخر في الساحة السورية المتشابكة حالياً.
لقد توافقت موسكو مع واشنطن لعقد جلسة في مجلس الأمن حول أحداث الساحل، هي التي كانت تجهض مشاريع أميركا في المجلس ضد الأسد باستخدام "فيتو"، لذا تجرّب أن تتمايل في الملفات جميعها، فالمجتمع الدولي يقف ضدها حالياً. الظروف تغيّرت عما كانت في 2015 عند تدخّلها في سورية، فالحرب على أوكرانيا تزيد العداء مع أوروبا، وواشنطن تؤكد وحدة الأراضي السورية، وتندفع نحو دمشق اندفاعاً قوياً بوساطات عربية وإقليمية، ما يصعّب على موسكو تنفيذ سياساتها.
تحاول روسيا المرور بين المنحدرات السورية بخفة، هادفة إلى غسل سمعتها "السيئة" مع السوريين بعد المجازر العديدة التي ارتكبتها في مرحلة الأسد، والاتهامات التي وجّهت إليها، حتى لو لم تكن رسمية، بأن لها تواصلاً مع الفلول في المرحلة الحالية. تناور روسيا بتصريحاتها، ترفع الوتيرة وتخفضها كما تتطلب المقتضيات، لا ترغب في ظهورها حليفاً غير موثوق، مع وجود اتهامات وُجِّهت إليها بأنها أسقطت الأسد، حين لم توفر له دعماً عسكرياً مثلما اعتادت.
طفقت موسكو تستنبت سياسة متشعبة تنفذ من خلالها إلى بناء استراتيجية مستقبلية في سورية، حيث يتراءى أمامها أنها ليست موشكة على فرض حماية لأن استراتيجيتها القريبة ترتسم على أن "سورية موحدة"، أو إمكانية استمرارها، فلا تزال ملفات عديدة عالقة مع السلطات الحالية كتسليم الفارّ بشار الأسد ومستقبل العلاقات السياسية والاقتصادية واستمرار الانتشار العسكري، لكن يبقى الساحل السوري مسقط قدم موسكو في تبيان استراتيجيتها المستقبلية في سورية.
