ARTICLE AD BOX
ثمة ممثلون يمرّون أمام الكاميرا كعابري حلم، وثمة آخرون تمرّ الكاميرا من خلالهم، تصير أعينهم عدسات، وملامحهم مرآةً نرى فيها وجوهنا، تشوّهاتنا، وهشاشتنا المختبئة خلف أقنعة الحياة. طلال الجردي من أولئك النادرين الذين لا يمثلون الدور، بل يذوبون فيه. لا يقف على حافته، بل يغوص في أعماقه، يلتقط أنفاسه، ويعيد تكوينه كما يُعاد تكوين الضوء في مرآة مكسورة.
في حضوره، لا ضجيج مفتعل ولا صراخ لإثبات الوجود. بل سكينةٌ مقلقة، تحمل بين ثناياها طوفانًا مكتومًا. ممثل لا يحتاج إلى كلمات كثيرة ليبوح، يكفيه صمتٌ مشبع بالدلالات، يكفيه نظرٌ واحد ليُقيم حوارًا داخليًا لا يُنسى. في عينيه، حكايات لا تُروى، وفي جسده لغة لا تُقال. لا يقدّم الشخصية، بل يُولد منها، ويسير بها نحو نُضج لا يُدرَّس، بل يُعاش.
يمتلك طلال الجردي قدرة فطرية على تحويل الانفعال إلى ملمس، والعاطفة إلى جسد. لا يبحث عن الإبهار، بل عن الإقناع. هو ابن تلك المدرسة الصامتة، التي تؤمن بأن الصدق وحده كفيل بإحداث الأثر. مدرسته هي العمق، لا السطح، والحقيقة، لا التجميل. موهبته لا تلهث خلف التصفيق، بل تسعى لأن تُحرّك الساكن في القلب.
في كل شخصية يُجسّدها، لا يرتدي طلال الجردي القناع، بل يخلعه عن نفسه، ليُلاقي الإنسان الكامن في النص. يجسّد الإنسان كما هو: خليطًا من التناقضات، نبلاً مغلّفًا بالخوف، وشرًّا مموّهًا بالحاجة. لا يختبئ خلف بطولة، ولا يتورّط في استعراض، بل يصنع من كل تفصيلة من تفاصيل الشخصية قنديلًا يُضيء المعنى.
وأكثر ما يميّزه، ذاك الالتزام الأخلاقي العميق تجاه ما يؤديه. لا يدخل مشهدًا ليملأ فراغًا بصريًا، بل ليهزّ سكون الكاميرا بحقيقته. لا “يشتغل” على الشخصية، بل ينحتها من الداخل، يبدأ من نبضها، من هشاشتها، من تشققاتها الصامتة، من تلك المناطق الرمادية التي يخشاها كثيرون، ويحولها إلى نبضٍ حيٍّ على الشاشة. لذلك، في كل مرة يطلّ فيها، يولد بصوتٍ مختلف، بنبرة مختلفة، حتى وإن احتفظ بالشكل نفسه.
ورغم عشرات الشخصيات التي عبر بها وعبرت به، لم يكن يومًا نجم المنصات ولا ابن الضجيج، بل كان ضوءًا خافتًا يُنير من الداخل. ظلّ وفيًّا لفنّه، لا يساوم عليه، ولا يتنازل عن صدقه لأجل فتات من نجومية زائلة. لم يركض خلف الكاميرا، بل انتظرها أن تلتفت إليه حين يستحق، وها هي تفعل، متأخرةً ربما، لكنها منبهرة.
حين يصل ممثل إلى هذه الدرجة من النضج، يُصبح اسمه مجرّد ظهوره كافيًا لإشعال الحكاية. طلال الجردي لا يُطلب منه أن يكون البطل، بل أن يكون المنقذ الصامت للنص، ذاك الذي يمنحه نبضًا وإن لم يكن في صدارة المشهد. هو بصمة في المشهد، لا زينة له. هو سؤال داخل الشخصية، لا إجابة جاهزة.
وفي زمن صار فيه الأداء مرادفًا للادّعاء، يأتي الجردي ليذكّرنا بأنّ التمثيل ليس تقليدًا لصوتٍ أو سلوك، بل انبثاق لحياةٍ من جسدٍ جديد. كلّ شخصية عنده ولادة، وكلّ ولادة فيها وجع، وفيها اكتشاف، وفيها تَركٌ لما كان، وتَشبّثٌ بما سيكون. هكذا فقط يُصبح حضوره شهادة حيّة على معنى أن تكون ممثلًا لا يُمثّل، بل يعيش.
بقلم شربل الغاوي