ARTICLE AD BOX
حين يعتلي جهاد عقل خشبة المسرح، لا يقدّم عرضًا موسيقيًا، بل يُعلن ولادة لحظةٍ خارقة للزمن، كأنّه يُحيي صوتًا غاب منذ الخلق. لا يتقدّم إلى الكمان كما يفعل العازفون، بل يخطو نحوه كما يخطو العاشق نحو معشوقه، أو كما يتقدّم كاهنٌ إلى محرابه ليكتب طقسًا جديدًا لا يُشبه سواه. هو عاشق الكمان، لا مجازًا، بل فعلًا واحتراقًا. الآلة بين يديه لا تعود جمادًا، بل تتحوّل إلى جسد حيّ، يتنهّد، ويصرخ، ويهمس، ويرتجف… كما يفعل العاشق حين يبوح للهواء بسرّه.
أنامله لا تمرّ على الأوتار بل تسكنها، تُنصت لها وتُربّت عليها كما يُربّت العاشق على جرحه المفتوح. لا يعزف ليروق السمع، بل ليحرّك الذاكرة الخفية في الخشب والهواء، ليوقظ ما سكن وما ظُنّ أنه مات. هو لا يُكرّر، بل يبتكر. لا يُقلّد، بل يُجاهر بما لم يُقل. وكأنّه يعثر على النغمة في خيال السكون، في تجاعيد الخشب، في رعشة الأوتار الخجولة، وفي المسافة المعلّقة بين الصوت والصمت.
في حضرة جهاد عقل، المقام ليس قالبًا، بل حريّة، واللحن ليس بنية، بل حالة. الكمان لا يُستخدم، بل يُحتَضن. الصوت لا يُطلق، بل يُفجّر من عمقٍ لا مرئيّ، من طبقة داخلية لا يبلغها إلا من يعرف كيف يصغي إلى وجع الخشب. جسده يتّحد مع الآلة حتى يصبحان كيانًا واحدًا؛ كلّ نفس، كلّ طرف إصبع، كلّ التواء لعضلة، هو مشاركة في صياغة هذا الصوت الذي لا يُشبه أحدًا، لأنّه لا يُستعان فيه بأحد.
وحين يحوّل الكمان إلى غيتار، لا يفعلها كحيلةٍ مسرحية، بل كتمردٍ صامت، كصفعة على وجه القوالب، كصرخة حرية. يطرق على الأوتار كما يطرق الشاعر على باب القصيدة، لا ليكتبها، بل ليُستخرج منها نَفَس الحياة. هناك، تتلاشى الحدود بين الآلة والعازف، بين اليد والخشب، بين الحسّ والصوت، بين الفن والحقيقة.
إنّ عزف عاشق الكمان لا يُسمّى موسيقى وحسب، بل اعترافٌ جسديّ. كلّ نغمة تنبض بعرقه، بنبضه، بوجهه المتشنّج، وكأنّه يحمل بين يديه بركانًا يريد له أن ينفجر ببطء، كي لا يقتل، بل يوقظ. لا يريد إبهارنا، بل خلخلة يقيننا. لا يقدّم مقطوعة، بل يقدّم أنفسنا إلينا على شكل رعشة.
هو لا يدعونا إلى حفلة موسيقية، بل إلى وقفة وجوديّة. لا يُعيدنا إلى لحنٍ مألوف، بل يُعيدنا إلى دهشة الولادة الأولى، إلى لحظة اختراع الشعور، إلى ذاك المكان المجهول الذي يصبح فيه الإنسان صوتًا، لا مظهرًا. كلّ ما يصدر عنه هو حالة وجدانية، لا تقاس بالجمال، بل بالأثر.
ولأنّ الموسيقى عند جهاد عقل ليست أداة ترفٍ، بل كينونة، فإنّه لا يعزف لنُصفّق، بل ليُعرّينا. يترك الحقيقة أمامنا عارية، دون تزويق، دون تفسير. لا يشرح… بل يكشف. لا يبرّر… بل يهزّ. فنرتجف، أو نصمت، أو نذوب في ما لا يمكن وصفه.
هو لا يشبه أحدًا، ولا يريد أن يُشبهه أحد. كلّ نغمة يخلقها هي نتيجة احتراق داخليّ، رحلة سفرٍ في باطن الروح لا يعرف الطريق إليها إلا من اختبر الغياب الكامل. كلّ مقطوعة هي لحظة وحيدة، لا تتكرّر، ولا تُنسخ، لأنّها ابنة اللحظة، لا ابنة القواعد.
الكمان في يده ليس خشبًا، بل امتداد لنفسٍ ممزّق، لخيبةٍ تُغنّي، لوجدانٍ يتدلّى من الوتر. يُمسك الكمان كما يُمسك أحدنا ذاكرةً موجعة… يحتضنها، يُربّت عليها، ثم يتركها تبوح.
وفي حضرته، تنهار المسافات: بيننا وبين الصوت، بين الأداة والروح، بين النغمة والدعاء. الكمان يذوب في حضنه، والصوت لا يخرج من الوتر، بل من مكانٍ أعمق بكثير… من قلبٍ يعرف كيف يقول الحقيقة دون صوت.
جهاد عقل ليس عازف كمان.
هو الكمان نفسه حين يقع في الحبّ.
بقلم شربل الغاوي.