ARTICLE AD BOX
لا تزال 77 عاماً من النكبة الفلسطينية المستمرة تكتب فصولاً جديدة من النكبات والانتكاسات، وواقعاً يزداد صعوبة في الداخل الفلسطيني فلا أرض ولا مسكن، ولا أمن ولا أمان. القتل في كل مكان بقرار من المؤسسة الإسرائيلية التي تركت المجتمع الصغير نسبياً يغرق في مشاكله الاجتماعية وأزماته الاقتصادية، وتناحره الداخلي، وتركته ينهش جسده، ورفدته بالسلاح طالما استخدمه للاقتتال والجريمة بعيداً عن المجتمع اليهودي، وغذّت المجرمين فيه حتى تكاثروا وأصبحوا يسفكون الدماء ولا يراعون الحرمات. نكبة مستمرة، في طياتها نكبات تدفع جزءاً من المواطنين للتفكير بالهجرة بعد عقود من الصمود. نكبة تكتب أيضاً فصولاً جديدة وشديدة من الملاحقات السياسية والتضييق على المجتمع العربي بذرائع أمنية، وقمع الحريات، وتصاعد الاعتقالات الإدارية، ومشاهد حالكة أخرى يطول الحديث عنها، في مجتمع يحاول رغم كل شيء الصمود بما بقي من أنفاسه الوطنية.
وباتت النكبات في الداخل الفلسطيني تمتد خيوطها إلى أبسط تفاصيل الحياة، وإلى الأنفاس المكبوتة، والواقع المرعب، خصوصاً بعد مرحلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
نكبات في الداخل الفلسطيني
عندما نقول إن النكبة ما زالت مستمرة ولم تنته في عام 1948، فإن من دلالاتها ممارسات المؤسسات الإسرائيلية المختلفة، سواء تكلّمنا عن الشرطة، أو النيابة العامة، أو المحاكم وغيرها. النكبة مستمرة في التصعيد غير المبرر ضد مجتمعنا العربي بالعديد من النواحي التي تمس حقوقه وحرياته"، يقول مدير مؤسسة ميزان الحقوقية في الداخل الفلسطيني المحامي عمر خمايسي، في حديث لـ"العربي جديد"، مضيفاً أنه "بالتركيز على الاعتقالات، وخصوصاً الإدارية، فإننا لا نتحدث فقط عن استمرار معاناة شعبنا من النكبة، وإنما استمرار الحكم العسكري ولكن بمسميات مختلفة".
ويوضح خمايسي قائلاً: "صحيح أنه تم الإعلان رسمياً عن انتهاء الحكم العسكري في عام 1966 ولكن الممارسات ما زالت مستمرة بمسمّيات أخرى تتماشى مع الفترة الزمنية، والعنصرية المتصاعدة، واستمرار تفعيل حالة وقوانين الطوارئ التي منها ما هو موجود قبل عام 1948 وأخرى فيها مساس صارخ، من قبيل اعتقال الشخص دون أن توجّه له تهمة، ودون محاكمة ولا شفافية وبيّنات وقرائن وأدلة". ويضيف: "يُبنى الأمر على أمور ظنية ومواد سرية، واللاعب الأقوى الذي يحرك الخيوط في هذه الممارسات هو جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، الذي يقدّم توصيته وتقريره لوزير الأمن الذي يوقّع على الاعتقال، الذي يستمر حتى فترة أقصاها ستة شهور في كل مرة، وقابل للتمديد إلى ما لا نهاية. وبالتالي قد يُعتقل الشخص لسنوات دون أن تكون هناك تهمة، ودون أن يتمكن من الدفاع عن روايته ويفنّد الشبهات إذا كانت هناك شبهات أصلاً". ويشير خمايسي إلى أن "هذا الواقع الصعب تكمن خطورته أيضاً في العدد غير المسبوق من المعتقلين الإداريين من أبناء المجتمع العربي في الأشهر الأخيرة"، موضحاً أنه "قبل السابع من أكتوبر 2023، كنا نجد بشكل عام بضعة معتقلين إداريين فقط، ربما خمسة أشخاص، يقل أو يزيد، ولكن اليوم نجد أنفسنا أمام العشرات من المعتقلين الإداريين، ليس لأنهم قاموا بعمل معيّن، ولكن لأن هناك ظناً أن لديهم أفكاراً قد تشكّل خطراً على أمن الدولة. ناهيك عن الخطاب الشائع في المجتمع اليهودي الذي تتكلم شريحة واسعة منه عن ترحيل وإبادة وقتل العرب دون محاكمة".
عمر خمايسي: لا نتحدث فقط عن استمرار معاناة شعبنا من النكبة، وإنما استمرار الحكم العسكري ولكن بمسميات مختلفة
يرى خمايسي أن "الكيل بمكيالين في هذا الموضوع هو خطورة أخرى تضاف إلى خطورة سهولة توظيف الاعتقالات الإدارية والسياسات التي ينتهجها وزير الأمن والمخابرات. وبعد السابع من أكتوبر أصبح السقف الذي كان معمولاً به مختلفاً تماماً. والقضاء الإسرائيلي أصبح في مثل هذه الملفات العبد المطيع للمخابرات والنيابة والسياسات، وينفذ ما يُطلب منه، ولا يتحلى بجرأة معارضة مثل هذه القرارات". ويضيف: "لا نجد حتى الآن أي إبطال لأمر اعتقال إداري، والإبطال الوحيد هو إلغاء وزير الأمن قرارات الاعتقال الإداري ضد المستوطنين الذين يشكّلون خطراً يومياً على الفلسطينيين بالإرهاب اليهودي الذي يحدث في الضفة الغربية. ومن هذا المنظار أيضاً النكبة ما زالت مستمرة وأشد. المخابرات والشرطة والنيابة العامة تعطّل الحقوق والحريات، وتعزز القمع والاعتقال التعسفي والتضييق والملاحقة بحق المجتمع العربي".
لا يتوقف الأمر عند الاعتقالات الإدارية، كما يقول خمايسي، "فعندما يُعرَّف المعتقل بمفهوم المؤسسة الإسرائيلية أمنياً حتى دون إدانة، تصبح وضعيته صعبة جداً بمنع زيارات الأهل عنه، وإدخال الملابس أو احتياجات أساسية. ووصل الحال في الآونة الأخيرة إلى حد التضييق على المحامين الذين يتابعون مثل هذه الملفات، من خلال تفتيشهم، ومنهم من بلغ بهم الأمر حد منعهم من دخول السجن للقاء موكليهم، وأبعدوا عن السجون لفترة عام كامل".
نكبة السجون
أصدرت مؤسسة ميزان بالتعاون مع جهات أخرى كتاباً عام 2010 يوثّق الانتهاكات التي تحدث في السجون، كان عنوانه "صرخات من وراء القضبان"، وهي كما يقول خمايسي "صرخات الأسرى الذين كانوا يعانون الويلات. وحملت الإفادات صرخات بشأن زيارات الأهالي والتواصل معهم، والإهمال الطبي، وموضوع رداءة الطعام، وصرخات بشأن الشعائر الدينية وحرية العبادة، والتعليم والثقافة، واستخدام العنف والاعتداءات الجسدية وغيرها". ويضيف: "إذا كان هذا الحال في حينه، فالوضع أصعب اليوم بكثير، وخصوصاً على مستوى العنف والاعتداءات والتضييقات وكميات الطعام وجودته. وجهاز القضاء الإسرائيلي أعطى شرعية لمثل هذه الممارسات التي يقودها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير".
نكبة المسكن
"تتجلى النكبة في موضوع الأرض والمسكن" أيضاً، بحسب ما يقول رئيس المركز العربي للتخطيط البديل حنا سويد، في حديث لـ"العربي الجديد". ويوضح أنه "بغضّ النظر عن كل الأسباب، إن كانت تتعلق بانعدام خرائط هيكلية أو مصادرة الأراضي، وضيق المسطحات، أو كانت تتعلق بالنظام، والتخطيط، والورق والمعاملات، عندما يصل الوضع إلى هدم البيوت، فهذا مسّ مباشر وملموس بالإنسان وحق المسكن. وهذا يتصاعد أكثر في الأشهر الأخيرة في أرجاء المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني خصوصاً بوجود الوزير بن غفير، الذي وضع هدم البيوت العربية هدفاً له، وسخّر صلاحياته لتسريع عمليات الهدم. وفي النقب بشكل خاص لم يتوقف الهدم بتاتاً".
حنا سويد: قرار استراتيجي بسحب البساط من تحت مجتمعنا، بمعنى سلب الأراضي من المواطنين العرب
على مستوى مناطق نفوذ السلطات المحلية العربية، يقول سويد إنه "رغم المطالبة والتوجه إلى اللجان الجغرافية وإلى وزارة الداخلية والقيام بكل المعاملات اللازمة حسب القانون لتوسيع مناطق نفوذها، فإنها حصلت على صفر تقريباً من التوسيع. فهناك مصادرات مستمرة وبطرق متعددة". ويشير إلى أنه "في الفترة الأخيرة وضعت المؤسسة الإسرائيلية مخططات لتوسيع شارع رقم 6 (عابر إسرائيل) ومدّه إلى الشمال، على حساب أراضٍ عربية، ونتحدث عن مئات الدونمات من الأراضي التي ستصادر. وهناك رفض من قبل دائرة أراضي إسرائيل لتعويض أصحاب الأراضي العرب بأرض مقابل أرضهم رغم المطالبات، وليس السبب عدم وجود أراض كما تزعم، إذ إن نحو 94% من مساحة البلاد اليوم هي أراض بملكية دائرة أراضي إسرائيل". ويضيف: "هذا قرار استراتيجي بسحب البساط من تحت مجتمعنا، بمعنى سلب الأراضي من المواطنين العرب، خصوصاً أن هناك إمكانية للتخطيط بشكل مختلف يحد من المس بالأراضي العربية الخاصة، ولكن الهدف هو المصادرة".
نكبة التراخيص
يشير سويد إلى صعوبات كبيرة في استصدار رخص بناء أيضاً، بحيث "صارت العملية شاقة جداً ومكلفة جداً، وبمسار طويل وبيروقراطي إلى أبعد الحدود". ويوضح أن "استصدار رخصة بناء يستنزف كل الموارد المالية في مجتمع فقير أصلاً. وإذا صدرت الرخصة بعد مخاض عسير، فقد لا يبقى مال للبناء. والتخلّف عن البناء لفترة ما قد يلغي الرخصة. والكثير من مخططات البناء التي حصّلتها السلطات المحلية العربية بقيت حبراً على ورق بسبب غياب الميزانيات الكافية، ما يعيق شق الشوارع للمناطق السكنية الجديدة، وتجهيز البنية التحتية من صرف صحي وماء وكهرباء. هذا أشبه بأن نعيش أحلام يقظة، نحلم بأن لدينا تراخيص بناء أو خريطة هيكلية، ولكن دون تنفيذ".
في الفترة الأخيرة صرح جهاز "الشاباك" بأن الجريمة المستشرية في المجتمع العربي صارت تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، وهو مؤشر آخر يضاف إلى مؤشرات وتصريحات إسرائيلية سابقة يفيد بأن المؤسسة الأمنية كانت شريكة وداعمة لعصابات الإجرام في المجتمع العربي لتفتيته من الداخل. يقول سويد، الذي سبق أن كان رئيساً لسلطة محلية وعضواً في الكنيست قبل سنوات مضت، إنه "رغم كل المخططات والمؤامرات والتمييز، لم تقوَ السلطات الإسرائيلية علينا وبقي مجتمعنا متمسكاً بوجوده وأرضه ولم نهاجر. ولكن من استطاع أن يقوى علينا اليوم هو نحن أنفسنا، بحيث يشعر الواحد منا أن أمنه مهدد بسبب السلاح والجريمة". ويضيف: "أول ما يبحث عنه الإنسان هو الأمان، وهذا بات مفقوداً، والمؤسسة الإسرائيلية لها يد في ذلك، وعليه بتنا نسمع عن الكثيرين من أبناء الجيل الشاب الذين يفكّرون بالهجرة. هذا وجه آخر من أوجه نكبة شعبنا. هذه سياسة الدولة أيضاً". ويشرح أنه "في سنوات الثمانينيات مثلاً قررت الحكومة قطع دابر الإجرام المنظم في المجتمع اليهودي، وبعد وقت قصير انتهى الموضوع وتم اجتثاثه. كان الأمر في صلبه قراراً سياسياً بالأساس، لكن في حالتنا القرار السياسي لم يصدر بعد. وأخشى ما أخشاه أن يكون هذا وسيلة من أجل بث اليأس والخوف في قلوب الناس، والتأثير سلباً في صمودهم ووجودهم، وبالتالي دفعهم للهجرة".
نكبة الجامعات و"حز البطيخ"
ليس الحال أفضل بالنسبة للحركات الطلابية الفلسطينية في الجامعات الإسرائيلية، والتي تعاني الويلات أيضاً، وسط تصعيد ملموس ضدها كسائر المجتمع الذي تنتمي إليه. في هذه الأيام يحيي الطلاب العرب ذكرى النكبة تحت قيود مشددة، لكن حتى هذا لم يستسغه وزيرا التعليم والمالية وأوعزا بقطع الميزانيات عن الجامعات التي تسمح بإحياء نشاطات تتعلق بالنكبة لدفعها نحو فرض قيود إضافية على الطلاب العرب. يقول يوسف طه، مركّز الهيئة المشتركة للكتل الطلابية، لـ"العربي الجديد"، إن "الممارسات الإسرائيلية لمنع الفلسطينيين من إحياء ذكرى النكبة اشتدت منذ حرب الإبادة على غزة. والتصعيد في الجامعات يأتي في إطار الهجمة ضد كافة الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وهو ما قاد هذا العام إلى إلغاء مسيرة العودة السنوية. ويشمل ذلك أيضاً التحريض المستمر على الحركات الطلابية العربية التي تحيي في كل عام المناسبات الوطنية، ومنها ذكرى النكبة المستمرة". ويشير إلى أن "الجامعات تشهد فصلاً جديداً من التصعيد، وهذا حدث أيضاً عقب الانتفاضة الثانية عام 2000، ولكن اليوم بمستوى غير مسبوق، من ناحية شروط الشرطة والتضييق على الجامعات نفسها في السماح بمثل هذه النشاطات. بتنا مثلاً نُمنع من رفع العلم الفلسطيني، حتى أن (حز البطيخ) بات ممنوعاً بعد لجوء الطلاب إليه بديلاً عن العلم في الفعاليات. ورفع صور أطفال من غزة بات ممنوعاً في الاحتجاجات على حرب الإبادة. هذا فضلاً عن التهديد والتحريض. هذا الأسبوع، مثلاً تم اعتقال طالبة من الجامعة العبرية في القدس. المؤسسة الإسرائيلية تدرك تأثير الطلاب، وتسعى لقمع أي دور سياسي لهم وتلاحق من يفعلون ذلك وتهددهم بالفصل في مسعاها لكم الأفواه".
يوسف طه: المؤسسة الإسرائيلية تدرك تأثير الطلاب، وتسعى لقمع أي دور سياسي لهم وتلاحق من يفعلون ذلك
وكانت شريحة الطلاب من أوائل الشرائح التي استُهدفت في الداخل الفلسطيني وربما الأولى، ومنذ السابع من أكتوبر 2023، كانت هناك عشرات الاعتقالات، وتم استدعاء حوالي 160 طالباً للمثول أمام لجان الطاعة في الجامعات. يقول طه: "باتت سياسات الجامعات مشددة جداً، وبلغت حد تهديد رؤساء جامعات للحركات الطلابية بفض النشاطات السياسية بالقوة، خصوصاً تلك الرافضة للحرب على غزة. هناك محاولات من قبل المؤسسة الإسرائيلية لترهيب شريحة الشباب والطلاب، لأنها تمثل مستقبل المجتمع الفلسطيني في الداخل ولأن كسر إرادتهم يمهّد لواقع جديد". ويشدد طه على أهمية التعامل بمسؤولية مع النشاطات المقيّدة أصلاً والتي بات الحصول على موافقة عليها يتطلب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً، مؤكداً أن "السجن ليس هدفاً بالنسبة للطلاب، ولا إقصاؤهم عن التعليم. لكن هذا لا يعني التنازل عن الشجاعة والموقف، ولكن بمسؤولية تراعي ظروف التحريض الحالية".
