درّاجات الموت وجرائم القتل في حمص السورية

1 week ago 5
ARTICLE AD BOX

في عصر كل يوم وقبل أن ترخي الظلمة ستارها كاملاً على المكان تنشط حركة الدرّاجات النارية في عدة أحياء في مدينة حمص، باتت مسكونة بالأشباح والخطر، إذ يدخل الناس عصراً ولا يعودون للخروج، تقفل الأبواب، وتوصد جيداً حتى الصباح، انتهى عهد الزيارات والسهرات بين الأقارب والجيران والأصدقاء، حتى الشرفات في البيوت، يترصدها القتل كما الشوارع ذاتها.

لم تتوقّف الجرائم عند طائفة محدّدة، فهذه الأحياء ذات طابع مختلط لكن الغالبية من الطائفة العلوية

تتحرّك الدراجات في كل الاتجاهات من دون خوف، بينما ينشر صوتها الخوف في قلوب الناس المترقبة. إنه مؤشّر لتحرّك الموت وتجواله العلني، بعد حين قد تسمع طلقات متفرّقة ثم يتم إعلان الخبر عبر مجموعات واتس أب وصفحات فيسبوك عن أخبار القتل، الذي تناول عائلات كاملة بينها الأطفال والنساء. إنه التسلسل المعتاد، الذي تجري وفقه الأحداث، ما خطف الأبصار عن حوادث الخطف التي تنتهي أيضاً بالقتل من دون معرفة الجاني.

لم تتوقّف الجرائم عند طائفة محدّدة، فهذه الأحياء ذات طابع مختلط لكن الغالبية من الطائفة العلوية. إذ كان هناك ضحايا من الطائفة المرشدية ومن السنة، ولكن الأغلبية كانت بشكل طبيعي من الطائفة العلوية.
في 3 إبريل/ نيسان الماضي، كانت الأم تسير مع طفليها في الشارع عائدة إلى المنزل في حي كرم اللوز، والعائلة أصلاً جرى تهجيرها من حي النازحين، مرّت قربهم درّاجة نارية عليها شابان، رمى أحدهما قنبلة (قيل أنها صوتية) على العائلة، ما أسفر عن قتل الطفل حيدر سليمان (12 عاما) واصيبت الأم والأخ الأصغر بجروح. كان استخدام قنبلة أمراً مثيراً ليس فقط للرعب والاعلام بل أيضاً مثيرا للاستفزاز لحجم الاستهتار بالوضع الأمني، وهذا بالذات ربما سبب تخفيض عتبة التصعيد زمنياً او بوسيلة القتل، فالجريمة الثانية وقعت بعد أسبوعين وفي الحي نفسه ولكن استبدلت القنبلة بإطلاق الرصاص. إذ أطلق شخصان على درّاجة نارّية في 19 إبريل/ نيسان النار على أم وابنتيها التوأمين (19 عاماً) في وقت عودتهن من بيت الجد توفيت الأم وابنتاها أمام نظر الأب.
لم يتوقف ذلك على وقتٍ معين، ففي حين أن الجريمتين المذكورتين كانتا في نهاية النهار وبدء الظلام، إلا أن بعض الجرائم كانت تتم أيضاً في وضح النهار؛ مثلاً في حي السبيل أقدم شخصان يستقلان درّاجة نارّية على إطلاق النار وقتل الشاب سليمان عيسى الحوراني في محله بتاريخ 25/4/2025. وكانت قد حدثت حادثة شبيهة بذلك  في وقت سابق باستهداف شابين أمام أحد المحال التجارية أسفر عن وفاة أحدهما في حي المهاجرين بحمص.
وأمام الأصوات المتصاعدة التي تتهم الجهات الرسمية بإغماض العين عما تفعله هذه الدرّاجات، التي تنوعت أعمالها بين القتل ورمي القنابل الصوتية في بعض الشوارع من دون هدف سوى إحداث الرعب من حين إلى آخر. أمام هذا، صدرت عدة توجيهات وقرارات بمنع مرور هذه الدرّاجات بعد الخامسة مساء في الأحياء السكنية، وتمّت مصادرة العديد منها غير المرخصة. وللأسف، يبدو أن آلية تطبيق القرارات كانت غير فعالة، وربما غير دقيقة، حتى أن بعض هذه الدرّاجات هاجمت الأمن العام في أحد الحواجز على خلفيةٍ بقيت غامضة وغير مفهومة. فكثيراً ما كان الأشخاص على هذه الدراجات ملثمين ويرتدون اللباس المموه حتى اختلطت صورتهم لدى الناس ولم يعد أحد قادراً على التمييز بين المجرم والمنتقم بشكل شخصي وبين أفراد تنتمي لقوى تابعة للحكومة. إلى درجة أن ما حدث في 22 إبريل/ نيسان كان لافتاً، إذ كانت الجريمة، حسب ما تداولته المواقع عن شهود عيان، أن الدرّاجة النارّية توقفت وترجل أحد الراكبين عليها ومشى باتجاه الضحية فواز رجب مع ابنة أخيه ( من تدمر يقطن في ضاحية الوليد)، اقترب القاتل منهما، ثم أطلق النار ببرود وعاد إلى الدرّاجة، حيث ينتظره شريكه، صعد وانطلقا.

لم تعد حالات فردية، بل هي جريمة مستمرة. على الحكومة أن تدفع باتجاه إيقافها

تعدّى الاعتداء على المواطنين في الشوارع، وانتقل إلى البيوت، ففي الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) أطلق أحدهم النار على مفيد سليمان وأخيه معين سليمان وزوجته لينا ديوب وذلك من شباك المنزل المفتوح في حي كرم الزيتون.  وفي الـ4 من الشهر الحالي (مايو/ أيار) أطلق ملثمان يستقلان دراجة نارية، الرصاص على سحر إبراهيم وزوجها في شرفة منزلهما الأرضي، تعمل سحر(35 عاماً) مدرّسة لغة فرنسية ولديها طفلان، توفيت إثر إصابتها البليغة.
ومن استخدام البارودة الروسية إلى استخدام المسدسات وأحياناً بكاتم صوت. إذ قتل في اليوم نفسه شاب وهو عائد إلى منزله في جانب آخر من الحي. وبعد يوم، جرى اطلاق النار على عائلة في شارع الأهرام، الأم توفيت مباشرة وإحدى ابنتيها لحقت بها في اليوم الثاني بعد إصابة في الرأس. ذكر أن الجريمة كانت على خلفية تهديد العائلة للخروج من منزلها بغرض الاستيلاء عليه.
تعيش حمص أياماً صعبة على الصعيد الأمني، الذي يشكل تهديداً مباشراً لحياة الناس وللسلم الأهلي. إذ يجري اقتناص الأشخاص والعائلات وكأنهم العصافير من دون أدنى خوف من الإمساك بهم او المحاسبة، رغم السعي الحثيث إلى إعادة هذه الأحياء إلى الحياة. تشكل الجرائم المتتالية حاجزاً بين هذه الأحياء والانخراط في الحياة العامة أو النشاطات الثقافية والاجتماعية التي تقوم في مركز المدينة. ولا يخفى على أحد أن الخطف مسألة تشكل المانع الأكبر لدى الشباب والشابات، وهكذا تعود هذه الاحياء المستهدفة إلى التقوقع والانعزال.
بدأت الحوادث متباعدة، ثم صارت متقاربة إلى درجة أن تقع حادثتا قتل في ليلة واحدة أو في ليلتين متتاليتين، ويبقى السؤال مشرعاً من أين تأتي هذه الدراجات، وما السر في ظهورها واختفائها ناشرة الموت والرعب في الطرقات والبيوت من دون القبض على أحد الجناة؟ وماذا وراء اصطياد الناس العزّل، أهو القصاص الفردي والثأر والانتقام؟  أم هي رغبة في تهجير سكان هذه الأحياء عبر إثارة الرعب والخوف والإذلال؟ أم أنه إحراج للحكومة ومحاولة إظهارها بمظهر غير القادر على إدارة الحياة اليومية لمواطنيها؟ أما عن السلاح فهو متوفر على صفحات النت للتجارة التي تثير أسئلة كثيرة.

وفي كل الحالات، بين الضحايا أطفال ونساء يقتلون ظلماً ومن دون ذنب. وضحايا تدفع ثمن جريمة آخرين أو ثمن جرائم النظام البائد لمجرد انتمائها لطائفته، فأين القضاء الذي عليه أن يحمي المواطنين على أرض بلدهم، وأن يقف على مسافة واحدة من كل المواطنين، وعدم ترك الأمر للدوافع الشخصية بتحقيق العدالة واسترداد الحقوق وعدم التعدّي على حقوق الأبرياء؟
لم تعد حالات فردية، بل هي جريمة مستمرة. على الحكومة أن تدفع باتجاه إيقافها حتى تستوعب الوضع في حمص التي يقول عنها المراقبون منذ سقوط نظام الأسد المجرم إنها صمام الأمان لسورية كلها.

Read Entire Article