دروس فلسطينية لم تُقدِّمها المناهج

2 weeks ago 5
ARTICLE AD BOX

"لا، ليس هناك شيء مروّع يوشك أن يصيبك في مستقبل بعيد، بل اعلم أن شيئاً مروّعاً يحدث لك الآن. إذ يُطلب منك أن تقتل جزءاً من نفسك، جزءاً كان سيصرخ في وجه الظلم. يُطلب منك أن تفكك آلة الضمير الحي. لا يهم إن كانت الدبلوماسية تفرض عليك أن تكتفي بهز كتفيك أمام مشهد أشلاء الأطفال، ولا يهم إن كان البعد الجغرافي عن الدماء يتيح لك أن تعيش في غفلة. انسَ الشفقة، وانسَ حتى الموتى إن لزم الأمر، لكن على الأقل قاوم سرقة روحك". هذا ما يقوله الروائي والصحافي الكندي من أصل مصري عمر العقاد، في كتابه "يوماً ما، سيكون الجميع ضد ما حصل" الصادر مؤخراً في نيويورك عن دار "نوف"،  حيث يتناول فيه تجربة عائلته المصرية في الهجرة إلى كندا، ولاحقاً إلى الولايات المتحدة، ويتأمل في تجربته بوصفه شابا عربيا– أميركيا في فترة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

قد يكون هذا الكتاب مدخلاً مناسباً للحديث عن موسم التخرّج في الجامعات الأميركية، هناك حيث اعتلى الطالب لوغان روزوس، المتخرّج من كلية غالاتين بجامعة نيويورك، المنبر وسط الهتافات والتصفيق. بدا متردداً مضطرباً. طبعاً، وكيف لا يكون كذلك، بعد عامين من تنكيل الجامعات الأميركية بطلابها وتفنّنها في معاقبتهم أكاديمياً وإدارياً، وصولاً إلى التواطؤ مع الحكومة الأميركية على قمعهم، واختطافهم من الشوارع والبيوت، واعتقالهم دون أي جرم أو ذنب إلا دعمهم للقضية الفلسطينية ومناهضتهم للإبادة الجماعية في غزة.

ومع هذا، استجمع لوغان نفسه وأعلن للجميع في قاعة التخرج أنّ "الشيء الوحيد المناسب قوله في هذا الوقت، ولجمعٍ بهذا الحجم، هو الاعتراف بالفظائع التي تحدث حالياً في فلسطين"، والاعتراف بأن ما تقوم به إسرائيل في غزة هو إبادة جماعية: Genocide. نعم، مجرد النطق بهذه الكلمة في حرم جامعة أميركية بات ضرباً من الشجاعة ومجازفة ذات ثمن باهظ. اشتعلت القاعة بالهتافات والتصفيق حين تعمّد الشاب تكرار الكلمة، متحدياً الإداريين الموجودين، متحدياً نظام الجامعة الأميركية المتواطئ، الذي يدّعي التربية والتعليم والديمقراطية وحرية التعبير، مقاوماً سرقة الروح. فها نحن، بعد امتحان غزة، نرى الأنظمة الفاسدة كلها، وفي طليعتها الجامعات الأميركية، تسقط كل أقنعتها وتكشف عن حقيقتها كمجرد ذراع للسلطة الفاسدة.

كذلك بدأت الطالبة سيسيليا كولفر، الخريجة المتخصصة في الاقتصاد والإحصاء، خطاب تخرجها من جامعة جورج واشنطن بتذكير زملائها أننا جميعاً كنّا وما زلنا، منذ ما يقارب العامين، شهوداً على إبادة جماعية تُرتكب بحق الفلسطينيين. وأضافت: "لا يمكنني الاحتفال بتخرجي وقلبي مثقل، وأنا أعلم أن جميع الطلاب في فلسطين أُجبروا على وقف دراستهم، وطُردوا من منازلهم، وذُبحوا لمجرد صمودهم في بلد أجدادهم".

مجرد النطق بكلمة "إبادة" في أميركا صار مجازفة باهظة الثمن

هذان مجرد نموذجين من حركة طلابية أميركية لم تنجح في تغيير الواقع، ولم تردّ الفاجعة، لكنها نجحت في منح الطلاب الذين شاركوا فيها ثقافة حقيقية فشلت جامعاتهم في تقديمها لهم.

فقد كان الأسبوع الماضي أسبوع التخرج في معظم الجامعات الأميركية. تأهّب الجميع في الحرم الجامعي، وكان للشرطة حضور في كل الاحتفالات، وقد بات وجود عناصر الشرطة والأمن مشهداً معهوداً في كل جامعة أميركية. نراهم أحياناً فرادى على هوامش المشهد، وأحياناً يحتشدون بكامل عتادهم، مستعرضين قوتهم، وملوحين باحتمالات مرعبة. وكل ذلك بسبب تخوف الجامعات الأميركية من طلابها؛ من شابات وشباب من مختلف الخلفيات الدينية والثقافية والعرقية والاقتصادية، نهضوا جميعاً وهبّوا لنصرة غزة. هذا ما صرنا نسميه "انتفاضة الطلاب في أميركا".

وقد شهدت الجامعات الأميركية تحركات مؤيدة لفلسطين ومنددة بالعدوان الوحشي على غزة لم يسبق لها مثيل، منذ أكتوبر 2023. استُدعي على أثرها بعض رؤساء الجامعات للمثول أمام لجنة من نواب الكونغرس بإدارة الحزب الجمهوري، وبتحريض من حلفائهم من أمناء الجامعات ومانحيها. وقد ادعت اللجنة أن الإدارات فشلت في السيطرة على الجامعات والتصدي لما سمته "معاداة السامية". إذ صوّرت لجنة التحقيق كل التحركات التي تُدين الهمجية الإسرائيلية في غزة على أنها معاداة للسامية، مجنّدة كل ما في واشنطن من عنصرية وأصولية.

وبدلاً من الدفاع عن طلابها وأساتذتها الفلسطينيين والعرب الذين يتعرضون لأخطار محدقة، والدفاع عن طلابها اليهود الذين رفضوا أن تُرتكب المجازر باسمهم، قبلت الجامعة بالخلط الكاذب والمتعمّد بين الصهيونية واليهودية وتبنّته. فصارت كل التحركات المناهضة للذبح والمجازر تحركات "معادية للسامية" في خطاب الجامعة.

أي معاملة أكثر تمييزاً وإقصاءً لليهود من الافتراض بأنهم جميعاً يؤيدون الإبادة الجماعية؟ أو أنهم جميعاً ينتمون، بحكم يهوديتهم، إلى النظام الإسرائيلي الاستيطاني الاستعماري العنصري؟ الصهيونية هي اختطاف للهوية والثقافة اليهوديتين، وتحجيم لتنوعهما. بل كذلك ابتزاز، وتلاعب، وغسيل أدمغة، وترويع للشباب اليهود في الجامعات الأميركية ليظنوا أن الحقيقة عدوّتهم، وأن التعليم خطر عليهم، وأن التفكير النقدي تهديد وجودي.

لكن، ولحسن الحظ، كثيرون منهم واعون لهذا النفاق. إلا أن الجامعات تجاهلت كل هذا، وتعنتت، متّخذة حربها ضد "معاداة السامية" ذريعةً لممارسة أبشع أنواع العنف والقمع داخل الصفوف وخارجها. وقد طاولني شيء من هذا العنف ضمن عملي أستاذة للأدب والنقد العربيين في جامعة بنسلفانيا. ففي ربيع العام الماضي، قمتُ بتدريس صف بعنوان: "أدب المقاومة من نجد إلى فلسطين"، قرأنا فيه مختارات من الشعر والنثر العربيين، نستكشف من خلالها موضوعات المقاومة والثورة بأشكالها المختلفة، الاجتماعية والسياسية والأدبية.

تعرّضتُ للهجوم والمضايقة والتهديد، وتم وصفي في الكونغرس كمروّجة للكراهية. اثنان من السياسيين الحمقى، أحدهما لوّح بقائمة النصوص المقررة في صفي وهو يتلعثم في التلفظ باسمي، واعتبرني تهديداً للجامعة ولسلامة الطلاب، فقط لأنني كنت أدرّس الشعر الفلسطيني، وبالأخص لأني كنت أدرّسه في سياقه الأوسع، في إطار التراث الشعري العربي الغني والحيّ والمتجدد. هذا أمر لا يُسمح لنا به في الإمبراطورية ومؤسساتها.

عضو آخر من أعضاء اللجنة هاجم الصف ووصفه بـ"الخطر الأمني" لأن قائمة القراءات تضمّنت نصاً لـ"الإرهابي" غسان كنفاني. هذا هو مستوى الإسفاف والجهل الذي يتحكم بالجامعات الأميركية ويملي عليها الأوامر. وما هذا الجهل العنيف إلا تجلٍّ للماكارثية الجديدة، واستعراض لقوى اليمين المتطرف.

بتُّ أدرّس الآن في غرف غير مُعلن عنها على موقع الجامعة. انخفض عدد الطلاب المسجلين في صفوفي لأنهم صاروا يخشون على سلامتهم. ما زلت أتلقى تهديدات عبر البريد الإلكتروني والبريد العادي بشكل منتظم. أصبحت في عزلة، حتى داخل الدائرة التي أعمل فيها، بين الزملاء الذين يُفترض أنهم خبراء في الشرق الأوسط وثقافاته.

تخلّت الجامعات الأميركية عن مبادئ البحث العلمي والنقاش المفتوح والحرية الأكاديمية التي تقوم عليها فكرة الجامعة، واستسلمت للعبة السياسية الأميركية المبتذلة والدموية. ولكن كثيرين من طلابها انتفضوا، عرباً وأميركيين، مسلمين ويهوداً ومسيحيين وملحدين، مواطنين ومهاجرين، فكانوا جيلاً من الشباب الأميركي الذي رفض أن تُرتكب الإبادة باسمه. منح الطلاب المؤيدون لفلسطين جامعاتهم وإداراتها فرصة لتكون أكثر من مجرد أدوات للاضطهاد والسلطة الفاسدة. ناضلوا من أجل إنقاذ الجامعة ورسالتها من خلال شعار وحيد بسيط لا مجال للمساومة عليه: لا للإبادة الجماعية.

تشويه للمفاهيم وخلط التحركات المناهضة للذبح بـ"معاداة السامية"

لا شك أن ما يتعرض له الطلاب في أميركا لا يُقارن، لا من قريب ولا من بعيد، بهول ما يواجهه أهل غزّة وفلسطين من دمار وقتل وفاشية. وهم، وإن فشلوا في دفع الشر المطلق عن غزّة، إلا أنهم نجوا بأرواحهم. فقد قدمت لهم غزة حبل خلاص فاعتصموا به، فانتفضوا وانتزعوا لأنفسهم ثقافةً حقيقية، غصباً عن مؤسسات التعليم الفاسدة.

فكانت الصفوف الحقيقية في الساحات، وفي مخيمات الاعتصام، وخلف الحواجز الحديدية. تعلّم هؤلاء الشابات والشبان أن يستمعوا إلى بعضهم البعض، أن يروا أنفسهم من خلال تجارب الآخرين البعيدين، والأهم من ذلك أنهم لم يتقاعسوا عن العمل. نظموا، وقرأوا، وكتبوا، وبحثوا، كما يفعل الطلاب عادة، لكن في هذه الحالة، فعلوا كل هذا من تلقاء أنفسهم، لا امتثالاً لمقررات المؤسسة وقوانينها، بل تصدّياً لها واعتراضاً عليها.

قاوموا سرقة أرواحهم. فلم يمتثلوا إلا لضمائرهم، وللدم المهدور في غزة. لم يمتثلوا إلا للدرس الذي قدّمته لهم فلسطين، وهو درس في الإنسانية والشجاعة والشرف. درسٌ كان ثمنه شعباً كاملاً، وحيواتٍ بأكملها ضحى بها العالم القذر. ذهبت غزة... ذهبت وتركت لنا درساً لا نستحقه.

 

* شاعرة وأكاديمية لبنانية مقيمة في الولايات المتحدة

Read Entire Article