خدعة الحرية

3 weeks ago 6
ARTICLE AD BOX

في لحظة ما، وأنت تتصفّح مقاطع الفيديو، أو تقرأ تغريدات أحدهم، قد يخطفك بريق الثقة، تلك النبرة التي تتحدّث كما لو أنها تمسك بالحقيقة من عنقها، تقودها حيث تشاء، من دون تردّد أو خشية. وربّما تسمع مصطلحات مثل "التحرّر من القطيع"، أو "كسر الأصنام"، أو "تفكيك المسلّمات"، فتُصاب بشيء من الإعجاب، وربّما تشعر أن هذا هو التفكير الحرّ الذي طالما بَحثت عنه. لكن، هل كلّ من يُجاهر بالحرّية مفكّر حرّ؟ وهل كلّ من هدم سلطة سابقة، لم تقم في داخله سلطة أشد؟

التفكير الحرّ قيمة نبيلة، ولكنّه ليس حيلةً لغويةً ولا موقفاً ثورياً فقط. التفكير الحرّ ليس صراخاً ولا معارضةً عمياء، وليس مجرّد شجاعة في مخالفة المألوف. هو، قبل كلّ شيء، انضباط داخلي، وصدق مع النفس، وتحمّلٌ لتبعات ما تفكّر فيه من دون خضوع لهوى، ولا رغبة في إثارة إعجاب الآخرين.

المشكلة أننا أحياناً في بحثنا عن الخروج من أسر التبعية نقع في تبعية من نوع آخر. ننبهر بمن يرفعون شعار الحرية الفكرية، فننجذب إلى طريقتهم، نُصفّق لكلماتهم القاسية، ونحسب أن كلّ ما يهدمونه كان يجب أن يُهدَم. لكنّ الانبهار نوع من التجميد، والانبهار لا يصنع حرّيةً، بل يستبدل بأصنام الأمس أصناماً جديدةً، قد تكون أكثر فتنة وخداعاً.

التفكير الحرّ لا يحتاج إلى ضجيج، بل إلى وعي هادئ. والحرّية الحقيقية لا تقودنا إلى التباهي بأننا أحرار، بل تزرع فينا تواضعاً يجعلنا نعيد النظر في كلّ فكرة، حتى تلك التي حسبنا أننا اخترناها بملء إرادتنا. لأن الإرادة نفسها قد تُخدَع، والعقل قد يُضلَّل، ولا سيّما حين ننسى أن "الحرّ" لا يعني "الصحيح" دائماً.

نعم، علينا أن نحترم كلّ من يمارس التفكير خارج الصندوق، لكن الاحترام لا يعني التبعية. علينا أن نصغي، أن نتأمّل، أن نُناقش، لا أن نُصفّق فحسب. لأنّ التصفيق المفرط هو إشارة إلى توقّف العقل. والانبهار هو لحظة غياب نقد، تشبه إلى حدّ بعيد تلك الحالة التي نحاول الهروب منها أصلاً حين ننبذ التبعية العمياء.

هناك فارق بين من يُحرّرنا لنتفكّر ومن يُحرّرنا لنصبح تابعين له. الأول يدفعك إلى أن تسأل، والآخر يغريك بأن تتبنّى أجوبته فقط. الأول يُعلّمك كيف تنظر، والآخر يريك ما يجب أن تراه. الأول يوسّع أفقك، والثاني يُبدله بمرآة تعكس صورته هو. فاختر جيّداً.

تأمّل فيمن يدّعون امتلاك مفاتيح العقل. تأمّل نبرة الصوت، لغة الجزم، ذلك الإحساس بأنهم فوق الأسئلة وفوق النقد. ستجد أحياناً أنهم لم يخرجوا من السجون الفكرية، بل استبدلوا جدرانها بجدران ملساء، لامعة، لكن السجن هو السجن، ولو بدا برّاقاً.

والتفكير الحرّ ليس بطولةً استعراضيةً، ولا موقفاً للفت الأنظار، ولا تمريناً على المخالفة من أجل المخالفة. هو التزام بالصدق، حتى إن لم يصفّق لك أحد. هو سعي دائم نحو وضوح الرؤية، حتى لو ضاعت البوصلة مؤقّتاً. هو رغبة حقيقية في أن تفهم، لا أن تُعجِب.

لذا، إذا أردت أن تكون حرّاً فعلاً، فابدأ من نفسك. لا تُسلّمها لأحد، ولا تضعها في جيب من يلوّح بشعارات الحرّية وهو لا يحتمل رأياً مختلفاً. وبدلاً من أن تنبهر، جادل. وبدلاً من أن تُصفّق، فكّر. وبدلاً من أن تتبع، اسأل: لماذا؟

الحرّية لا تُمنح، بل تُبنى. وأول لبِناتها أن تتوقّف عن الإعجاب بمن يدّعي امتلاكها. ولأننا في النهاية بشر، نميل بفطرتنا إلى الإعجاب، وإلى التعلّق بمن يبدو أكثر وعياً أو جرأة، علينا أن ننتبه أنّه: ليس كلّ من يضيء عقولنا، يريد لنا أن نُبصر. أحياناً، يريد فقط أن نراه هو، لا أن نرى الطريق. وكما قال المفكّر الفرنسي ألبير كامو: "الحرّية ليست سوى فرصة لنكون أفضل". فلا تترك هذه الفرصة تضيع في زحام الأصوات العالية والوجوه اللامعة، ذلك أن الحرّية الحقيقية تبدأ حين تتوقّف عن الإعجاب… وتشرع في الفهم.

Read Entire Article