ARTICLE AD BOX

<p> استمرت حضارة الفاو نحو 800 عام قبل أن تنهار بصورة مفاجئة (واس)</p>
لم تكن نشأة الحضارات القديمة حكراً على ضفاف الأنهار أو سفوح الجبال، حيث تتوافر مقومات الحياة، بل إن حضارة الفاو في قلب الصحراء وسط الجزيرة العربية أعادت رسم خريطة الاستيطان البشري ومفهوم المركز الحضاري. فقد ازدهرت هذه المدينة خلال الفترة من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن الرابع الميلادي، لتصبح محطة تجارية ودينية وثقافية بارزة ربطت بين جنوب الجزيرة وشمالها. ومع أنها بلغت أوج مجدها في صمت، فإن اختفاءها المفاجئ لا يزال لغزاً يُحيِّر الباحثين، بينما تبقى أطلالها شاهداً صامتاً على واحدة من أكثر حضارات الجزيرة غموضاً وتأثيراً.
تقع قرية الفاو الأثرية في الجنوب الغربي من العاصمة السعودية الرياض على بعد 700 كيلومتر عند تقاطع وادي الدواسر مع جبال طويق، وتطل على الحافة الشمالية الغربية لصحراء الربع الخالي، وكان موقعها الاستراتيجي نقطة وصل بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها الشرقي، مما جعلها محطة تجارية حيوية للقوافل القادمة من ممالك سبأ وحمير وحضرموت إلى بلاد الرافدين والشام.
نهضة قديمة
الفاو أو "قرية" لها أسماء عدة ذكرت في متن الكتابات العربية القديمة في الموقع، منها "ذات كهل" و"الجنة" و"المدينة الحمراء"، وعُرفت قديماً باسم "ذات كهل"، بينما اشتق اسمها الحديث من قناة "الفاو" المجاورة، وشهدت نهضة حضارية في مجالات عدة، إذ كانت محطة للقوافل بفضل وقوعها على طرق التجارة القديمة خاصة التي تربط بين اليمن والخليج وبلاد الشام، ووجد فيها السكان البيئة الآمنة للحياة فحفروا آباراً لاستخراج المياه، وشقوا قنوات الري، وزرعوا النخيل والعنب والحبوب، وربوا الماشية مثل الإبل والأبقار، وشيدوا المنازل والأسواق من الحجارة المنحوتة واللبن، بتصاميم معمارية استخدموا فيها الجبس المزخرف.
ومن أبرز معالم قرية الفاو السوق التجارية المحاطة بأسوار عالية، وتتكون من ثلاثة طوابق وسبعة أبراج للتخزين، والقصر الملكي بما يحوي من رسوم جدارية تظهر تطوراً فنياً متفوقاً على حضارات مجاورة، وكذلك المعابد والمقابر المشيدة على غرار السائد في الحضارات القديمة، لكن مملكة كندة تعرضت للغزو الذي قادته مملكة حمير، مما دفع الكنديين إلى الهجرة شمالاً، وتندثر مع الزمن معالم قرية الفاو.
في أربعينيات القرن الـ20، وأثناء عمل شركة "أرامكو" السعودية في التنقيب عن البترول لاحظ موظفوها الأجانب الموقع، وتأكدوا من أثريته، وبدأ المستشرقون والمهتمون بالمسح الأثري يزورون الموقع، لكن من بين رواد المستشرقين الذين زاروا الفاو كان البريطاني جون فيلبي الذي أُطلق عليه فيما بعد "عبدالله فيلبي" أو "الشيخ عبدالله" وارتدى الزي السعودي وعاش مع السعوديين لفترات طويلة، وكذلك البلجيكي فيليب ليبنز، ومن ثم توالت زيارات المستشرقين لاكتشاف حضارة الفاو ومعالم شبه الجزيرة العربية.
بدء الاستكشافات
كان الأكاديمي عبدالرحمن الطيب الأنصاري (1935-2023) قائد الرعيل الأول لجيل الأثريين السعوديين ومؤسس دراسة علم الآثار في الجامعات السعودية من خلال قسم التاريخ في جامعة الملك سعود، ومن ثم قسم الآثار والمتاحف، ويعد الأنصاري مكتشف قرية الفاو، إذ قاد فريقاً من الأثريين السعوديين الذين يدرسون بالجامعة في 1972 لأكثر من 20 عاماً كشف خلالها عن مناطق سكنية ومعابد ومقابر، ونشرت نتائج الأعمال في مجلدات علمية عالمية.
من أهم المكتشفات الأثرية في قرية الفاو نقش بالخط المسند الجنوبي يعود إلى القرن الأول الميلادي، ويُعتقد أنه أحد أقدم النماذج للغة العربية القديمة، ونقوش تجارية ودينية تظهر تفاعلاً ثقافياً مع ممالك الجنوب مثل مملكة سبأ، وكذلك أكثر من 2800 مقبرة للنبلاء وعامة الناس، بعضها يحوي شواهد منحوتة، إضافة إلى تماثيل برونزية لشخصيات ذات ملامح عربية وأوانٍ معدنية وزجاجية وأسلحة مزخرفة ومجوهرات من الذهب والفضة إلى جانب 17 بئراً مائية وقنوات ري متطورة.
في العقد الأخير أدركت السعودية أهمية تسجيل المواقع الأثرية ذات البعد الحضاري في قائمة التراث العالمي بـ"اليونيسكو"، فأعدت ملفاً بالموقع بما يتضمنه من قيم الأصالة والمظاهر الأثرية التي تعكس تكيف الإنسان من البيئات الصحراوية، فكثفت جهود المسح والتنقيب في الموقع والحافظ على مكوناته وتطويره وتأهيله لاستقبال الباحثين والزوار من مختلف أنحاء العالم، وفي عام 2022 استخدمت هيئة التراث السعودية تقنيات حديثة في التنقيب منها المسح الجوي بالليزر والرادار المخترق للأرض والتصوير ثلاثي الأبعاد، وهو ما أسهم في اكتشاف معالم الفاو بصورة أكثر وضوحاً، وفي 2024 أدرجت "اليونيسكو" الموقع في قائمة التراث العالمي.
تهديدات وتجديدات
منذ أن هجره الكندنيون بعد غزو مملكة حمير له تعرض موقع الفاو لتهديدات بسبب العوامل الطبيعية ونهب مقتنياته الأثرية، لكن منذ اكتشافه حاولت السعودية الحفاظ عليه، وفي 2014 أنشأت سياجاً حوله، ووضعت خططاً لتطويره كمزار سياحي، واستطاعت استعادة بعض القطع الأثرية التي أخذت في الموقع سواء من الداخل أو الخارج، وسجلتها في السجل الوطني للآثار، وبدأت عرضها إلى العالم في معارض دولية منها معرض "روائع الآثار السعودية" الذي زار أهم المتاحف العالمية في الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وروسيا واليونان وألمانيا وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية والصين والإمارات.
استمرت حضارة الفاو نحو 800 عام قبل أن تنهار بصورة مفاجئة، ويشير الباحثون في هيئة التراث لـ"اندبندنت عربية" إلى أن أسباب الانهيار تعود إلى مجموعة من العوامل، أبرزها تغير المسارات التجارية والمناوشات العسكرية الخارجية والنزاعات القبلية، إضافة إلى العوامل البيئية مثل الجفاف ونقص موارد المياه في المنطقة المحيطة. ويرجح عدد من الباحثين في علم الآثار أن الفاو فقدت مكانتها التجارية تدريجاً مع تحول طرق القوافل إلى مسارات بديلة، من أبرزها طرق التجارة البحرية.
بعض الباحثين اعتبر اختفاء الفاو من الذاكرة التاريخية ظاهرة غير معتادة في تاريخ الجزيرة العربية، لكن هيئة التراث توضح أنها كانت مدينة مزدهرة ذات هوية ثقافية واضحة ونقوش غزيرة، إضافة إلى كثافة المعثورات الأثرية الثابتة والمنقولة، والتي يفترض أن تترك أثراً حتى الآن في الرواية الشفوية أو الكتابية، إلا أن غيابها عن مسرح التاريخ القديم يعد لغزاً.
أدوار محورية
وأوضحت الهيئة إن بعض نتائج التنقيب تشير إلى تراجع النشاط الصناعي والمعماري في الطبقات العليا من الموقع، وهو ما قد يفسر كتدهور اقتصادي في الفترات المتأخرة من عمر المدينة، كما أن ندرة النقوش الرسمية في أواخر مراحلها قد يدل على ضعف في التنظيم السياسي، لافتاً إلى أنه عقب تسجيل قرية الفاو في قائمة مواقع التراث العالمي، شرعت هيئة التراث في إعداد خطط مستقبلية تشمل توسيع نطاق التنقيبات الأثرية في المناطق السكنية والسوق والمقابر ورقمنة النقوش وتوثيقها علمياً.
ونوه الباحثون في الهيئة المعنية بتراث السعودية وحفظه بأن قرية الفاو، بحكم موقعها الجغرافي، أدت دوراً محورياً كمحطة للتبادل التجاري بين الأقاليم المحلية والمناطق الخارجية، وذلك في مختلف أنواع السلع. واستناداً إلى المعثورات المكتشفة خلال أعمال التنقيب الأثري، تبين أن أبرز المنتجات التي اشتهرت بها القرية قديماً كانت اللبان والبخور والعطور والحلي وأدوات الزينة.
تحدي البيئة
على رغم نشأتها في بيئة صحراوية قاسية فإن التنقيبات أظهرت وجود آبار عميقة وسدود صغيرة وقنوات لجمع مياه الأمطار، ويشير التخطيط المعماري إلى كفاءة عالية في تخزين المياه وتقنين استخدامها، إذ تمكن السكان من حفر الآبار وشق القنوات وبناء الأحواض والخزانات والاستفادة من مياه الأمطار وفق ما ذكر باحثو الهيئة.
وأشارت الهيئة إلى الطرق والوسائل الهندسية التي استخدمها سكان الفاو لتخزين المياه أو جمعها، ومنها الآبار العميقة التي حفروها بعمق يصل إلى أكثر من 20 متراً مع تبطين بعضها بالحجارة أو الطين لتقوية الجدران، وقد تم رصد نحو 80 بئراً حول الموقع، إضافة إلى بئرين مهمتين إحداهما في المنطقة السكنية، والأخرى في السوق، وكذلك الخزانات أو الأحواض التي نُصبت من الأحجار لجمع المياه، ولها آثار أمام بعض المنازل، إلى جانب القنوات المائية الحجرية أو الترابية التي كانت تنقل المياه من مواقع التجمع إلى الخزانات أو الحقول، بخاصة في الجهة الشرقية من المنطقة السكنية، وقد استخدم السكان التضاريس والمجاري الطبيعية بذكاء لتوجيه المياه، مما يعكس تخطيطاً هندسياً متقدماً.
ذاكرة حية
يرى الباحث المتخصص في الكتابات العربية القديمة مالك عبيد السليمي أن أبرز الاكتشافات الأثرية في الفاو هي اللوحات الجدارية الملونة والمفعمة بالحياة، والتي تحكي جانباً حياً من ذاكرة أهل قرية قبل أكثر من 2000 عام، فمنها لوحة زكي ولوحة السمكة والعمارة الفريدة من نوعها وغيرها.
وأشار السليمي إلى أن فترة ازدهار الفاو تقع ضمن العصر الحديدي، لافتاً إلى سكانها بقول المؤرخ جورجي زيدان "هناك أقوام في نجد يسمون القرويون، وهناك نقوش تذكر أسماء قبائل أو عائلات سكنوا قرية ومنهم آل سبي وآل بعيع وآل نتن وآل جبل وهم أول من سكن قرية في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد".
وقال الباحث إن تجارة القوافل كانت عنصراً أساساً في حياة سكان القرية، حيث أسهمت في تعزيز علاقاتهم مع الأمم المجاورة، ومع ازدهار التجارة، تطورت مختلف جوانب الحياة، إذ كانوا يتبادلون الحبوب والطيوب والنسيج والأحجار الكريمة، والمعادن مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص.
وأكد السليمي أن هذه الأنشطة التجارية أدت إلى ثراء ملحوظ تجسد في بناء القصور والأسواق والمقابر والمعابد، فضلاً عن تزيين منازلهم برسوم متنوعة وتماثيل معدنية وأخرى من المرمر، كما أسهمت التجارة في نشر المعرفة والكتابة، ومن أبرز مظاهر التقدم الاقتصادي في القرية هو سكهم عملة خاصة تحمل اسم معبودهم "كهل"، إضافة إلى اهتمامهم بتطوير أنواع مختلفة من المكاييل والموازين والأختام والصنج.
حضارة مدفونة
بدوره أكد المتخصص في الحضارات واللغات السامية سعيد السعيد أن الفاو لا يزال كثير من مكونها الأثري مدفوناً تحت الأرض، وأن ما توصل إليه لا يتعدى 50 أو 60 في المئة، متابعاً "عندما تكتمل الحفريات الأثرية في الفاو قد تكشف عن وثائق مدونة تقدم معلومات وافية عن أسباب هجرة الموقع أو تدهوره".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار السعيد إلى أن كثيراً من المدن والممالك التي نشأت قبل الإسلام في الجزيرة العربية كانت تقوم على مفترقات طرق التجارة للاستفادة من التدفقات التجارية ونقل عروض التجارة إلى فتح أسواق في هذه المدن، بالتالي عملية إعادة تسويق هذه العروض التجارة في أماكن الاستهلاك لتحقيق مزيد من الرفاهية.
وحول وجود صراعات سياسية واجهتها الفاو قديماً قال الباحث الحضاري "هناك عدد من النقوش، خصوصاً السبعية الخاصة بمملكة سبأ في القرن الثالث تذكر أنهم قاموا بهجمات وغزوات على قرية الفاو وسلبوا غنائم كثيرة وعادوا بها إلى مقر دولتهم في مأرب اليوم في اليمن".