ARTICLE AD BOX

<p>تتطور الابتكارات التقنية بوتيرة أسرع من قدرة القوانين على مواكبتها. تعرف هذه المعضلة باسم "معضلة كولينغريدج" (فري بيك)</p>
تكشف التحديات التي تواجه التشريعات الحالية، من فجوة التوقيت إلى ضعف المرونة، عن حاجة ملحة إلى إعادة بناء الفهم القانوني والأخلاقي بما يتماشى مع التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي. هذا التطور الذي يسير بوتيرة ذاتية وغير مسبوقة، يفرض على المشرعين التفكير في آليات تنظيم استباقية لا تكتفي برد الفعل.
في هذا السياق يطرح تساؤل جوهري: هل يمكن منح الذكاء الاصطناعي صفة الشخصية القانونية؟ وما مدى الاستفادة من التجربة الأوروبية في تنظيم هذا القطاع الناشئ والمعقد؟ في ظل هذا المشهد تقف الأنظمة القانونية العربية أمام فرصة نادرة لصياغة تشريعات المستقبل وتجاوز مرحلة التلقي إلى مرحلة المبادرة.
ويحذر إيلون ماسك، أحد أبرز رواد التكنولوجيا، من خطورة التأخر في هذا المضمار، قائلاً "الذكاء الاصطناعي حالة نادرة أعتقد فيها أننا في حاجة إلى تنظيم استباقي لا تفاعلي، لأننا إذا انتظرنا حتى تبدأ الكوارث بالحدوث، فسيكون الأوان قد فات". ويضيف، "عادة ما توضع القوانين بعد وقوع عدد من الكوارث، تعقبها موجة من الغضب الشعبي، ثم يتم إنشاء هيئة تنظيمية بعد سنوات. ولكن مع الذكاء الاصطناعي، هذه الوتيرة لن تكون كافية".
الذكاء الاصطناعي والتشريعات... فجوة تتسع
تواجه الأنظمة القانونية "مشكلة الفجوة الزمنية"، إذ تتطور الابتكارات التقنية بوتيرة أسرع من قدرة القوانين على مواكبتها. تعرف هذه المعضلة باسم "معضلة كولينغريدج"، حيث يصعب تنظيم التكنولوجيا في مراحلها الأولى لغياب الرؤية الكاملة لتأثيراتها، بينما يصبح التنظيم لاحقاً أكثر صعوبة وكلفة بعد اتساع الاستخدام وظهور الأضرار.
وتتفاقم الأزمة بفعل الجمود البيروقراطي داخل المؤسسات القانونية، ونقص الكوادر والتمويل، مما يعوق أي إصلاحات عاجلة، ويجعل الاستجابة أبطأ من وتيرة الأخطار.
من يسبق من؟
يشكل التباين بين منطق التشريع التقليدي وطبيعة الذكاء الاصطناعي تحدياً جوهرياً في عصر التقنيات المتسارعة. فخلافاً للتقنيات السابقة، يتسم الذكاء الاصطناعي بمرونة وتطور ذاتي لا يتماشى بسهولة مع النمط القانوني الرتيب.
وتشير المتخصصة في القانون والتكنولوجيا عبير حداد إلى أن "الطبيعة البطيئة، التفاعلية، والرتيبة لعملية التشريع في كثير من الأنظمة القانونية العربية تمثل عائقاً حقيقياً أمام إنتاج حلول تشريعية تواكب تعقيدات التقنيات الحديثة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معضلة الفهم قبل التقنين
لا يكمن التحدي الأكبر في تنظيم الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل في فهم طبيعته المتغيرة وغير المتوقعة. فخلافاً للتقنيات السابقة، لا يقوم الذكاء الاصطناعي على سلوك بشري يمكن التنبؤ به، بل يتطور ذاتياً أحياناً بطريقة يتعذر على مطوريه التحكم بها أو تفسيرها.
هذا التعقيد يضعف من فعالية القوانين التقليدية، ويجعل إشراك متخصصين في فلسفة القانون والأخلاق أمراً ضرورياً لفهم مفاهيم مثل النية والمسؤولية بصورة جديدة. كما تبرز الحاجة إلى متخصصين في التشريعات المرنة، القادرة على التكيف مع تغيرات التقنية المتسارعة.
وتشير حداد "إلى أن محاولات التشريع دون إشراك متخصصين من خارج المجال القانوني غالباً ما تؤدي إلى حلول سطحية، لا تدرك عمق المشكلة".
وتضيف أن الذكاء الاصطناعي بصفته عابراً للحدود يفرض أيضاً مقاربة دولية وقانوناً مقارناً يأخذ التفاوت التشريعي بين الدول بعين الاعتبار.
أخلاقيات الذكاء الاصطناعي... مسؤولية تتجاوز القانون
على رغم تطور القوانين المنظمة لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي تبقى الاعتبارات الأخلاقية تحدياً يتجاوز قدرة الأنظمة القانونية على معالجته بالكامل. فالذكاء الاصطناعي بطبيعته لا يميز بين الصواب والخطأ الأخلاقي، مما يجعل مسؤولية الاستخدام تقع على عاتق البشر.
ويؤكد رئيس قسم القانون العام في كلية القانون الكويتية العالمية أحمد سليمان العتيبي أن "المستخدم هو المسؤول الأول عن احترام الجوانب القانونية والأخلاقية عند استخدام الذكاء الاصطناعي"، مشدداً على أهمية مراعاة حقوق الملكية الفكرية والخصوصية والتحقق من المعلومات قبل اتخاذ أي قرار. كما يحذر من الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي، داعياً إلى بناء قدرات ذاتية وتحري العدالة والصدقية وتفادي التحيز عند إدخال البيانات، إضافة إلى التأكد من تراخيص البرمجيات المستخدمة.
ويختم بقوله إن الذكاء الاصطناعي "أداة مساعدة لا أكثر"، وينبغي التعامل معه بوعي قانوني وأخلاقي متكامل.
شخصية قانونية "جزئية" للذكاء الاصطناعي؟
مع التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي والسباق المحتدم بين الشركات المصنعة للروبوتات يظهر تساؤل عما إذا كان هناك حاجة إلى التعامل مع الذكاء الاصطناعي أو الروبوتات قانونيا بصورة مختلفة عن التكنولوجيا. أو اعتبارها كشخصية قانونية.
وتشير عبير حداد إلى أن قدرة الذكاء الاصطناعي على التعلم الذاتي ومحاكاة القرارات البشرية تثير تساؤلات قانونية عميقة. فالمستخدمون المنتظمون لأدوات مثل "ChatGPT" كثيراً ما يصفون التفاعل معه كأنه حديث مع شخص حقيقي، بخاصة أن إجاباته تتولد لحظياً ولا تبرمج سلفاً بصورة تقليدية.
لكن هذا التشابه الظاهري لا يكفي، وفق حداد، لمنح الذكاء الاصطناعي صفة "الشخص القانوني"، إذ إن هذا المفهوم نشأ أساساً لتجميع مسؤوليات بشر حقيقيين ضمن كيان واحد. وفي حالة الأنظمة الذكية، تغيب هذه الركيزة الأساسية، مما يخلق فجوة قانونية، خصوصاً في المجال الجنائي، حيث لا يمكن معاقبة خوارزمية كما يعاقب الإنسان.
وتقترح حداد حلاً وسطاً يتمثل في منح الذكاء الاصطناعي شخصية قانونية محدودة أو جزئية، تتيح تحميله مسؤوليات معينة دون منحه وضعاً قانونياً كاملاً كالكائنات البشرية أو الكيانات الاعتبارية التقليدية.
تشريعات الاتحاد الأوروبي
تعد تجربة الاتحاد الأوروبي في تنظيم الذكاء الاصطناعي من خلال قانون "AI Act"، الذي أقر في يوليو (تموز) 2024، أول محاولة على مستوى العالم لصياغة إطار تشريعي شامل وملزم ينظم الذكاء الاصطناعي بصورة مباشرة. وقد دفع هذا التطور كثيرين إلى التساؤل عما إذا كان القانون الأوروبي سيتحول إلى مرجع عالمي جديد، تماماً كما حدث مع اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) في مجال الخصوصية، وما إذا كانت الأنظمة القانونية العربية قادرة على الاستفادة من هذه التجربة أو تكييفها مع خصوصياتها.
وترى عبير حداد أن القانون الأوروبي يقدم تصوراً مهماً لكيفية التعامل مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، من خلال نهج قائم على تقييم الأخطار، حيث تصنف الأنظمة الذكية وفقاً لدرجة الخطورة التي قد تشكلها على الحقوق الأساسية، ويرتبط بكل تصنيف مستوى معين من الإشراف والشفافية ومعايير السلامة. إلا أن حداد تشير إلى أن هذا النموذج، على رغم أهميته، قد لا يناسب بالضرورة جميع الدول، إذ تختلف البيئات القانونية والسياسية بين منطقة وأخرى، كما هو الحال مع الصين التي اعتمدت نمطاً تنظيمياً مختلفاً تماماً. وتوضح أن القانون الأوروبي، على رغم طابعه التقني الصارم، يتضمن عناصر يمكن أن تكون مفيدة لأي نظام قانوني يسعى إلى التنظيم الرشيد، لعل أبرزها ما ورد في المادة الرابعة التي تلزم الشركات رفع الوعي الرقمي لدى موظفيها عند تطوير أو استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يسهم نظرياً في نشر ثقافة معرفية واسعة النطاق داخل المجتمعات. غير أن حداد تحذر من أن تبني هذا النموذج خارج سياقه قد يؤدي إلى حالة من الغموض التشريعي أو التناقض في التفسير. ومع ذلك ترى أن عناصر القانون تحمل أفكاراً قابلة للتكييف، وتستحق الدراسة الجادة من قبل المشرعين العرب. وتطرح تساؤلاً جوهرياً: هل ننتظر لنرى تطبيق هذا القانون على أرض الواقع ثم نحكم على صلاحيته؟ أم تبدأ الدول العربية من الآن بصياغة قوانينها، مستفيدة من التجربة الأوروبية، ولكن وفق أولوياتها وواقعها؟
النماذج مفتوحة المصدر... أداة شفافة لتنظيم الذكاء الاصطناعي
من ضمن أدوات التنظيم الفعالة التي يمكن أن تسهل تطبيق قوانين الذكاء الاصطناعي تبرز النماذج مفتوحة المصدر، التي تتمتع بدرجة عالية من الشفافية، إذ تتيح للمطورين والجهات التنظيمية الاطلاع على الكود المصدري والخوارزميات المستخدمة، مما يسهل عمليات التدقيق والتصنيف، بخاصة عند تطبيق قوانين تعتمد على تقييم الأخطار، مثل القانون الأوروبي. تسمح هذه النماذج بتحليل بنية النموذج وبيانات التدريب، وتحديد مدى امتثاله لمعايير السلامة والعدالة والشفافية. كما أن النماذج مفتوحة المصدر تمتاز بإمكان تكييفها مع البيئة القانونية المحلية، مما يسمح للمطورين ببناء أدوات مساعدة فوقها لضمان الامتثال التلقائي، مثل أدوات توثيق السجلات واختبار الانحياز.
وفي السياق العربي تؤكد عبير حداد أن هذه النماذج تستحق اهتماماً أكبر بكثير، بخاصة أن المجتمعات العربية تضم شريحة واسعة من الشباب المبتكرين، الذين غالباً ما يعملون بإمكانات محدودة. وتشير إلى أن هذه النماذج قابلة للتشغيل على خوادم محلية، ويمكن تكييفها لتلبية الحاجات الإقليمية الخاصة، فضلاً عن أنها تتيح سيطرة أكبر على خصوصية البيانات. فباستضافة البيانات الحساسة محلياً، يمكن للمؤسسات العربية حماية معلومات المستخدمين والامتثال للتشريعات المحلية، مما يجعلها خياراً مناسباً لتطوير بيئة رقمية مستقلة وآمنة.
الأنظمة القانونية العربية... نحو تشريعات استباقية
المستقبل القانوني في العالم العربي مرهون بمدى قدرة الأنظمة على مواكبة التحولات التكنولوجية المتسارعة. فالسؤال لم يعد ما إذا كان يجب تنظيم الذكاء الاصطناعي، بل كيف ومتى، ووفق أي رؤية تشريعية. من هنا، فإن تشكيل مجالس وطنية تضم متخصصين قانونيين وتقنيين، وإدماج مسارات أكاديمية متخصصة في قوانين التقنية، والعمل على تطوير بنية تشريعية إقليمية موحدة، قد يمثل خطوات حاسمة في هذا الاتجاه. كما أن تبني مبدأ "التشريع الاستباقي" بات ضرورة، بدلاً من انتظار وقوع أزمات تدفع إلى تقنين متأخر ومحدود الأثر.
ويؤكد أحمد سليمان العتيبي أن تأخر التحرك في هذا الملف قد يعزل الدول العربية عن خريطة التشريعات الدولية. ويدعو إلى إنشاء هيئات وطنية مستقلة تضم خبرات قانونية وفنية، تتولى صياغة اللوائح، ووضع المعايير، وإنشاء مراكز أبحاث وتدريب كوادر قادرة على إدارة هذا التحول القانوني والتقني المعقد. فتنظيم الذكاء الاصطناعي ليس فقط مسألة قانونية، بل هو رهان على السيادة والاستقلال الرقمي والأمن المعرفي في العالم العربي.