ARTICLE AD BOX

<p>سعت الولايات المتحدة إلى التحالف مع الصين كقوة موازنة للاتحاد السوفياتي (أ ف ب)</p>
لعل مشاركة الرئيس الصيني شي جينبينغ في احتفال نظيره الروسي فلاديمير بوتين بالذكرى الـ80 للانتصار على النازية هو آخر ما كان الرئيس دونالد ترمب يريد رؤيته الآن، فقد ظلت استراتيجيته أقرب إلى دبلوماسية الرئيس ريتشارد نيكسون في أوائل سبعينيات القرن الماضي التي وصفت بسياسة "الرجل المجنون"، وإن كانت بطريقة عكسية، فبدلاً من انتزاع الصين من روسيا (كما فعل نيكسون) يختبر ترمب انتزاع موسكو من بكين، إذ إن ضغط ترمب لإحراز تقدم في عملية السلام بين روسيا وأوكرانيا، أثمر أخيراً أول اجتماع بين الطرفين في إسطنبول الخميس قد يحضرها الرئيس الأميركي إذا كانت على مستوى القمة؟ فهل تنجح استراتيجية ترمب؟
انفراج بعد إحباط
في ظل تزايد إحباط إدارة ترمب من عدم إحراز تقدم في جهودها لإنهاء أعنف صراع في أوروبا منذ أجيال، بدا أن جولة دبلوماسية محمومة بين روسيا وأوكرانيا توشك على الانطلاق بفضل الضغط الذي بذله ترمب خلال الأيام الأخيرة، والذي يعتقد أنه يمكن أن يسفر عن شيء مثمر، بل إنه ذهب إلى حد تأكيد أن الاجتماع سيكون على مستوى القمة بين الرئيسين بوتين وفولوديمير زيلينسكي، وأنه سيكون لقاءً واعداً وجيداً، مشيراً إلى أنه قد يحضر هذه القمة في تركيا. لكن على رغم صعوبة جسر الهوة بين الطرفين، والتي قد تبدأ بهدنة غير مشروطة لمدة 30 يوماً كما اقترحتها الولايات المتحدة منذ البداية، فإن هدف ترمب الحقيقي يتجاوز تحقيق السلام بين روسيا وأوكرانيا، إلى فصل روسيا عن الصين، ففي مقابلة أجريت في الـ31 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024 مع مقدم البرامج السابق في شبكة "فوكس نيوز" اليميني تاكر كارلسون، جادل الرئيس دونالد ترمب بأن الولايات المتحدة بقيادة جو بايدن دفعت بكين وموسكو إلى التقارب، وسيكون فصل القوتين من أولويات إدارته، مؤكداً أنه سيضطر إلى تفكيك هذه العلاقة وبمقدوره أن يفعل ذلك.
استراتيجية نيكسون
ومنذ عودته إلى البيت الأبيض يحرص ترمب على التفاوض مع روسيا على أمل إنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، والتي تعهد خلال حملته الانتخابية إنجازها خلال 24 ساعة، مما يفسر سياسته تجاه أوكرانيا بأنها تخدم ما أراد إيصاله في تصريحاته لكارلسون، وهو سحب الولايات المتحدة من الصراع الأوروبي وإصلاح العلاقات مع روسيا، حتى لو تطلب ذلك التضحية بأوكرانيا، وهذا كله يندرج في سياق تحول الاهتمام الأميركي نحو احتواء القوة الصينية.
وبعد مكالمة هاتفية أجراها أخيراً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، صرح ترمب لقناة "فوكس نيوز" بصفته دارساً للتاريخ، ومتابعته لكل ما جرى، فإن أول ما نتعلمه في الولايات المتحدة هو عدم رؤية روسيا والصين تتحدان.
التاريخ الذي يلمح إليه ترمب هو استراتيجية عهد نيكسون، إذ سعت الولايات المتحدة إلى التحالف مع الصين كقوة موازنة للاتحاد السوفياتي، مما شجع على الانقسام بين الكيانين الشيوعيين في هذه العملية، إذ أسهم جهد هنري كيسنجر وزير خارجية نيكسون في الانفتاح الاستراتيجي على الصين في انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف، والآن تلعب إدارة ترمب لعبة مدروسة مع روسيا، بهدف ضمان الحصول على منافع اقتصادية مثل المواد الخام والمعادن الأرضية الرخيصة، مع محاولة إعادة تشكيل العلاقات الصينية - الروسية بهدف إبعاد موسكو عن بكين وإضعاف تحالفهما المتنامي.
استبعاد الصين
ويمكن أيضاً استخلاص العبر من مقارنة تاريخية أخرى بمؤتمر يالطا في الـ11 من فبراير (شباط) عام 1945، عندما حدد فرانكلين روزفلت وونستون تشرشل وجوزيف ستالين نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية من دون استشارة الصين، التي أضعفتها الحرب الأهلية آنذاك، فقد تمت تلبية مطالب الاتحاد السوفياتي في اتفاقية يالطا، مما منحه السيطرة على الجزء الساحلي من منغوليا، والوصول إلى موانئ منشوريا، والنفوذ على سكة حديد تشانغتشون الصينية.
في ذلك الوقت أعرب القائد السياسي والعسكري القومي الصيني تشيانغ كاي شيك عن أسفه لأن الصين قد بيعت بالفعل في يالطا على حد وصفه، ويبدو أن أوكرانيا واجهت مأزقاً مماثلاً، إذ ناقش الأميركيون والروس مستقبلها في البداية من دون مشاركتها المباشرة، وطرح ترمب عناصر الخطة الأميركية التي تعترف بسيطرة روسيا على القرم وقدم تنازلات أخرى لم تقبلها كييف على الإطلاق، وبينما لم ينتقد المسؤولون الصينيون استبعاد أوكرانيا علناً، فقد رحبوا بالحوار الروسي - الأميركي، مما يشير إلى تفضيل بكين لسياسة الصبر الاستراتيجي.
ماذا لو نجح ترمب؟
قد تبدو المخاوف من مصالحة حقيقية بين الولايات المتحدة وروسيا مبالغاً فيها، نظراً إلى التناقضات الهيكلية وانعدام الثقة التاريخي العميق بين البلدين، ومع ذلك فقد شكلت روسيا أكبر تهديد للصين عندما ادعت أنها أقرب شريك لها، ويشير هذا النمط التاريخي إلى أن على بكين أن تظل حذرة من أي تقارب روسي - أميركي بحسب ما يشير البروفيسور سيشنغ تشاو من جامعة "دنفر"، والذي أكد هذه المخاوف على أساس أن الانفراج الروسي - الأميركي في ظل إدارة ترمب الثانية قد يعطل استراتيجية بكين التي تحمل عنوان "الجبهة المتحدة المناهضة للهيمنة"، والتي اكتسبت زخماً، في السنوات الأخيرة، عبر تعزيز الدور الصيني وتوسيع مجموعة "بريكس" والتقارب الصيني المتزايد مع روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا ودول شرق أوسطية أخرى.
وإذا نجحت واشنطن في إبعاد موسكو عن بكين، فقد تجد الصين نفسها معزولة بصورة متزايدة في تنافسها الجيوسياسي مع الولايات المتحدة، وبحسب ما يشير الباحث السياسي وانغ هوي ياو، فإن نهج ترمب العملي والواقعي، والذي يفضل إبرام الصفقات الاقتصادية على التدخل العسكري، يشكل أخطاراً وفرصاً للصين في الوقت نفسه، إذ يمكن أن يؤدي هذا التحول إلى "مثلث كبير جديد" يضم الولايات المتحدة والصين وأوروبا على رغم أن خطة ترمب المقترحة للسلام بين روسيا وأوكرانيا، من المستبعد أن يقبلها بوتين بالكامل، لا سيما ما يتعلق بالضمانات الأمنية.
ومع ذلك إذا كان خلق شرخ بين موسكو وبكين هو الهدف النهائي بالفعل، فإن رؤية ترمب تبدو ساذجة وقصيرة النظر من وجهة نظر البعض مثل لينغونغ كونغ، المتخصص في العلوم السياسية بجامعة "أوبورن"، إذ ليس من المرجح أن تتخلى روسيا عن علاقتها بالصين فحسب، بل إن كثيرين في بكين ينظرون إلى تعامل ترمب مع الحرب الروسية - الأوكرانية وسياسته الخارجية، بصورة عامة، على أنه علامة من علامات الضعف لا القوة.
تحدٍّ متزايد
على رغم أن روسيا والصين كانتا خصمين في أوقات مختلفة خلال الحرب الباردة، حين تنافست الصين والاتحاد السوفياتي بسبب الانقسام الأيديولوجي الذي بدأ عام 1961 وتنافسا للسيطرة على الحركة الشيوعية العالمية، كما لاحت فرصة كبيرة لاندلاع حرب بين البلدين في أوائل الستينيات، واشتعل قتال حدودي قصير عام 1969، فإن المشهد الجيوسياسي اليوم يختلف عن حقبة الحرب الباردة، فالدولتان توطدت علاقتهما بصورة مطردة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وتتشاركان بصورة متزايدة في أهداف استراتيجية رئيسة، من أهمها تحدي النظام الليبرالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة.
كما استعرضت كل من بكين وموسكو في السنوات الأخيرة قوتهما العسكرية، حيث أظهرت الصين عضلاتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان، فيما فعلت روسيا الشيء نفسه في دول الاتحاد السوفياتي السابقة، بما في ذلك أوكرانيا، وأدى الموقف الموحد الذي اتخذته الحكومات الغربية بقيادة واشنطن لمواجهة تحدي الصين وروسيا إلى تقريب البلدين من بعضهما بعضاً.
أصدقاء مقربون
في فبراير عام 2022، وبينما كانت روسيا تجهز لاجتياح أوكرانيا، أعلن الرئيسان فلاديمير بوتين وشي جينبينغ ما يسمى "صداقة بلا حدود"، في استعراض عزيمتهما الموحدة ضد الغرب، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الصين شريكة لا غنى عنها لروسيا، حيث تعد شريكتها التجارية الأولى في كل من الواردات والصادرات، وخلال عامين فحسب، بلغ حجم التجارة الثنائية بين الصين وروسيا مستوى قياسياً بلغ 237 مليار دولار، وأصبحت روسيا تعتمد الآن اعتماداً كبيراً على الصين كمشترية رئيسة لنفطها وغازها، وأدى هذا الترابط الاقتصادي المتزايد إلى منح الصين نفوذاً كبيراً على روسيا، بما يجعل أي محاولة أميركية لإبعاد موسكو عن بكين اقتصادياً غير واقعية، لكن هذا لا يعني أن العلاقات الروسية - الصينية متينة، فلا تزال هناك نقاط خلاف واختلاف في السياسات، إذ إن هناك مجالات يمكن لترمب استغلالها إذا نجح في دق إسفين بين البلدين، وعلى سبيل المثال، قد يخدم مصالح روسيا دعم الجهود الأميركية لاحتواء الصين وتثبيط أي توجهات توسعية في بكين، وذلك من خلال علاقات موسكو الاستراتيجية مع الهند، التي تنظر إليها الصين بشيء من القلق، لا سيما في ظل استمرار وجود مناطق متنازع عليها على طول الحدود الصينية - الروسية.
من الأصدقاء الحقيقيون؟
يعرف بوتين من هم أصدقاؤه الحقيقيون وهو يدرك أن الإجماع الغربي الراسخ ضد روسيا بما في ذلك نظام العقوبات الاقتصادية القوي لن يزول في أي وقت قريب، وقد تعلم ذلك من ولاية ترمب الأولى، حيث بدا الرئيس الأميركي أيضاً وكأنه يتقرب من بوتين، إلا أنه فرض عقوبات أكثر صرامة تجاه روسيا، من إدارتي باراك أوباما أو جو بايدن.
لذا، بينما من المرجح أن يقبل بوتين، بكل سرور، اتفاق سلام بوساطة ترمب يضحي فيه بمصالح أوكرانيا لمصلحة روسيا، فإن هذا لا يعني أنه سيسارع إلى تبني دعوة أوسع نطاقاً للاتحاد ضد بكين، لأنه يدرك مدى اعتماد روسيا اقتصادياً على الصين، ومدى خضوعها لها عسكرياً، وعلى حد تعبير أحد المحللين الروس، أصبحت موسكو الآن تابعة لبكين، أو في أحسن الأحوال، شريكة ثانوية لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علامة ضعف
من جانبها، تنظر الصين إلى محادثات السلام التي أجراها ترمب مع روسيا وأوكرانيا على أنها علامة ضعف قد تقوض موقف الولايات المتحدة المتشدد تجاهها، ففي حين يتخذ بعض أعضاء الإدارة الأميركية مواقف متشددة تجاه الصين، حيث يعدها وزير الخارجية ماركو روبيو التهديد الأكثر قوة وخطورة على الرخاء الأميركي، إلا أن ترمب نفسه كان أكثر تردداً. وبينما فرض ترمب تعريفات جمركية جديدة على الصين كجزء من حرب تجارية متجددة، لكنه فكر أيضاً في عقد اجتماع مع الرئيس شي جينبينغ في بادرة واضحة على أنه يبحث عن حلول، والآن يبدو سعيداً أكثر من أي وقت مضى بالانفراج الأولي في المحادثات التجارية حول التخفيف التدريجي في التعريفات الجمركية بين البلدين، على رغم أن ترمب نفسه هو من أطلق الشرارة الأولى للحرب التجارية، بينما لم تبد بكين أي علامة على المبادرة بالانحناء لضغوطه.
وإضافة إلى ذلك تدرك بكين عقلية ترمب المتشددة، التي تعطي الأولوية للفوائد الملموسة قصيرة الأجل على المصالح الاستراتيجية طويلة الأجل الأكثر قابلية للتنبؤ، والتي تتطلب استثماراً مستداماً، وهذا من شأنه أن يغير الحسابات ويوفر انطباعاً بأن الولايات المتحدة قد لا تكون مستعدة لتحمل الكلف الباهظة للدفاع عن تايوان، بخاصة أن ترمب، فشل في إلزام البلاد بالدفاع عن تايوان، الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي التي تطالب بها بكين في انحراف عن سلفه بايدن، إذ أشار الرئيس الأميركي إلى أنه إذا ما شنت الحكومة الصينية حملة عسكرية لإعادة توحيد تايوان، فإنه سيلجأ إلى إجراءات اقتصادية كالرسوم الجمركية والعقوبات، وأثار انفتاحه الواضح على مقايضة أراضي أوكرانيا بالسلام قلقاً في تايوان في شأن التزام واشنطن بالمعايير الدولية الراسخة.
عزل الاقتصاد
استخلصت الصين كذلك درساً رئيساً آخر من تجربة روسيا في أوكرانيا، وهو أن نظام العقوبات الاقتصادية الذي تقوده الولايات المتحدة له حدود، فعلى رغم العقوبات الغربية الشاملة، استطاعت روسيا البقاء واقفة على قدميها من خلال الحيل والمراوغة وبدعم من حلفاء مثل الصين وكوريا الشمالية.
علاوة على ذلك، لا تزال الصين أكثر تشابكاً مع الغرب في التعاون الاقتصادي مقارنة بروسيا، كما أن موقعها الاقتصادي العالمي المهيمن نسبياً يعني أنها تتمتع بنفوذ كبير لمواجهة أي جهود تقودها الولايات المتحدة لعزل البلاد اقتصادياً مثلما حدث مع الحرب التجارية الأخيرة التي صمدت فيها بكين في وجه ضغوط واشنطن.
ومع التوترات الجيوسياسية التي دفعت الغرب إلى الانفصال التدريجي عن الصين في السنوات الأخيرة، تكيفت بكين مع التباطؤ الاقتصادي الناتج من ذلك من خلال إعطاء الأولوية للاستهلاك المحلي وجعل الاقتصاد أكثر اعتماداً على الذات في القطاعات الرئيسة، مما عكس جزئياً أيضاً القوة الاقتصادية الكبيرة للصين والتي تماشت مع سعي بكين لكسب دول الجنوب العالمي ومساندتها موقف الصين، حيث حصلت بكين على اعتراف 70 دولة رسمياً بتايوان جزءاً من الصين.
هل تستغل الصين الانقسام؟
ولهذا من المرجح أن تتعثر خطة ترمب لجر روسيا إلى تحالف مناهض للصين عبر العمل على إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية من خلال تفضيل روسيا، بل من المرجح أن تأتي هذه الجهود بنتائج عكسية، فعلى رغم أن روسيا نفسها قد تكن مخاوف في شأن القوة الصينية المتنامية، فإن الهدف الاستراتيجي المشترك للبلدين المتمثل في تحدي النظام الدولي الذي يقوده الغرب واعتماد روسيا الاقتصادي العميق على الصين، يجعل أي محاولة أميركية لإبعاد موسكو عن بكين غير واقعية. كما يكشف نهج ترمب عن نقاط ضعف يمكن للصين استغلالها، فسياسته الخارجية الانعزالية القائمة على المعاملات، إلى جانب تشجيعه الأحزاب اليمينية في أوروبا، قد توتر العلاقات مع حلفاء الاتحاد الأوروبي وتضعف الثقة في الالتزامات الأمنية الأميركية، وهو ما قد يجعل بكين تنظر إلى هذا الأمر على أنه علامة على تراجع النفوذ الأميركي، مما يمنح الصين مجالاً أوسع للمناورة، لا سيما في ما يتعلق بتايوان، وبدلاً من زيادة احتمالات الانقسام الصيني - الروسي، قد يؤدي هذا التحول إلى انقسام التحالف الغربي الهش أصلاً.