ARTICLE AD BOX
يلاحظ زائر دمشق هذه الأيام أنّ الأجواء مختلفة عن تلك التي كانت سائدة قبل قرار رفع العقوبات الأميركية عن سورية، والذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض خلال زيارته إليها الأسبوع الماضي، وإثر اجتماعه الأربعاء الماضي مع الرئيس السوري أحمد الشرع بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ومشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر تقنية فيديو كونفرانس.
بعد رفع العقوبات الأميركية عن سورية، بات الطريق مفتوحاً أمام الاستثمارات العربية والدولية، وبدأت تتقاطر على دمشق وفود عربية ودولية للبحث عن فرص استثمارات في قطاعات متعددة. يقول الخبير الاقتصادي سمير سعيفان، إنه منذ سقوط النظام باتت شركات كثيرة، وخصوصاً خليجية وتركية وربما صينية، تترقب رفع العقوبات عن سورية كي تقتحم أسواقها. وما إن أعلن ترامب عن إمكانية رفع العقوبات عن سورية، حتى اندفعت تلك الشركات الكبرى بقدراتها وخبراتها الكبيرة، تتسابق في إرسال وفود إلى دمشق مستبقة لحظة رفع العقوبات، وتقدم عروضها للاستثمار والاستيلاء على مرافق الخدمات ومرافق الإنتاج.
توظيف العقوبات لم يعد ممكناً
أبرز النتائج السياسية الملحوظة حتى الآن بعد قرار رفع العقوبات الأميركية عن سورية، هي أن القرار أدى إلى تغيير مهم في المواقف السياسية لأطراف عدة داخلية وخارجية، كانت ترى أن توظيف سلاح العقوبات يمكنه أن يقود إلى مردود سياسي، بتقديم تنازلات من قبل الإدارة الجديدة. لكن ما حصل هو العكس، ذلك أنه عزّز من موقعها، ووفّر لها غطاء عربياً ودولياً، وفتح أمامها الأبواب واسعة نحو مرحلة إعادة الإعمار.
مارست جماعات سورية ذات ألوان طائفية وسياسية وعرقية متعددة، ضغوطاً لمنع رفع العقوبات
فاجأ ترامب الأوساط كافة بخطوتي رفع العقوبات الأميركية والاجتماع مع الشرع. ولم يكن ذلك وليد مصادفة عابرة، بل نتيجة لجهود كبيرة قامت بها الرياض والدوحة وأنقرة على مدى الأشهر الثلاثة الأخيرة، ومن أجل ذلك، زار واشنطن على نحو منفرد كل من وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان، ووزير خارجية تركيا هاكان فيدان، ورئيس مجلس الوزراء القطري وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. وبحسب مصادر دبلوماسية سورية، فإن المسألة لم تكن سهلة، وواجهت موقفين معارضين بشدة، مارسا على الإدارة الأميركية ضغوطاً مباشرة، أو من خلال لوبيات، بهدف ثنيها عن التطبيع مع الإدارة السورية. الأول إسرائيلي، يربط رفع العقوبات بانضمام سورية الفوري إلى اتفاقات أبراهام والدخول في عملية تطبيع مع تل أبيب، وغضّ الطرف عن تدخلات إسرائيل في الشؤون الداخلية السورية، ودعم المشاريع التقسيمية. والثاني من جماعات سورية ذات ألوان طائفية وسياسية وعرقية متعددة. وقد حاول هؤلاء ثني الإدارة الأميركية عن رفع العقوبات ولقاء الشرع، وطالبوا واشنطن بأن تتبنى قراراً في مجلس الأمن، يعزز العقوبات ويربط رفعها بإلزام الحكومة السورية بقيام حكم فيدرالي يمنح شرق سورية وجنوبها ومنطقة الساحل حكماً ذاتياً، وإجراء انتخابات عاجلة من أجل اختيار مجلس تشريعي، وتشكيل حكومة جديدة بأطياف مختلفة.
لن يسلّم هذان القطبان بقرار ترامب رفع العقوبات الأميركية عن سورية، وسيعملان بصورة متوازية كونهما يتلاقيان ويتقاطعان في العديد من المصالح والأهداف، وسيواصلان الضغوط من أجل عدم تمكين الإدارة السورية من تطبيع علاقاتها مع الغرب. ولكن التأثير الذي سينجم عن عملهما في الساحة الدبلوماسية، لن يكون بالغاً إلى حدّ أنه يمنع حصول تطورات إيجابية مثل رفع الإجراءات الخاصة بالمصارف والتحويلات المالية والنقل والكهرباء، وقد ينجح في تأخير بعض منح إعادة الإعمار، لكنه لن يستطيع أن يثني الاستثمارات العربية والدولية عن التدفق نحو سورية بقوة، خصوصاً أن المجال مفتوح بقوة بسبب تعدد المجالات الخاصة بذلك على مستوى البنية التحتية وخدمات النقل والماء والكهرباء والصحة، بالإضافة إلى إعادة الإعمار، الذي يحتاج إلى جهد جديد، لا يقل عن ذلك الذي تمّ توظيفه من أجل تطبيع علاقات سورية عربياً وعالمياً.
لقد نجحت السعودية وقطر وتركيا في رهان رفع العقوبات عن سورية وتطبيع العلاقات بين واشنطن ودمشق، وهذا ليس بالأمر الهيّن في هذه المرحلة، ولولا الثقل الكبير لهذه الأطراف التي تعد من بين حلفاء الولايات المتحدة المقربين جداً، لما تمّ تحقيق ذلك بهذه الصورة وعلى نحو فوري ومن دون دفع ثمن، ولو أن الإدارة السورية حاولت رفع العقوبات بجهودها الخاصة، لاستغرق الأمر وقتاً طويلاً، والثمن كان سيكون كبيراً. كان عليها أن تقدم تنازلات سياسية كبيرة كي تبدأ مرحلة تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، ومن ثم أوروبا وبقية العالم.
التبني السعودي القطري التركي لسورية وسير الإدارة الأميركية في هذا الاتجاه فرصة كبيرة للإدارة السورية، والشعب الذي عانى لوحده من العقوبات، وظهر ذلك واضحاً في عهد نظام بشار الأسد، الذي وظّف المسألة لصالحه، واستخدمها وسيلة لتجويع السوريين والتحكم بهم. وبحسب التصريحات التي صدرت عن ترامب، فإنه أكد على ضرورة أن تلتقط الإدارة الجديدة الفرصة وتعمل على توظيفها للحفاظ على استقرار سورية، وهو الأمر الذي تؤيده الأطراف العربية والإقليمية والدولية، التي تعمل لمساعدة سلطات دمشق على تجاوز المرحلة الصعبة للوصول إلى طريق التعافي المبكر.
6 نتائج بعد رفع العقوبات الأميركية
لقاء الشرع مع ترامب بالنسبة لقطاعات واسعة من السوريين، يفتح الطريق لتحقيق تحول نوعي في وضع سورية الداخلي، وينعكس بسرعة على علاقاتها العربية الدولية، ويحقق نقلة سياسية، اقتصادية، وأمنية. ويتمثل ذلك في عدة نتائج منظورة.
ينهي رفع العقوبات حقبة طويلة دارت فيها سورية في فلك الاتحاد السوفييتي وروسيا، كما يؤكد هزيمة إيران
أولاً، تحصين سورية بوجه مشاريع إسرائيل، كونه يوفر للإدارة السورية شرعية دولية، ويعزز من موقفها في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، واحتلال أراض سورية، وتدمير المقدرات العسكرية، وخرق اتفاقات فصل القوات لعام 1974، ووضع حدّ لمحاولات التدخل في الشؤون الداخلية السورية، وتشجيع نزعات التقسيم ومشاريع الفيدرالية في الجنوب والشرق، وممارسة الضغوط لجرّ دمشق إلى توقيع اتفاقات إذعان.
ثانياً، يثبت اللقاء هزيمة إيران وخروجها من المنطقة، وهذه إحدى الأوراق المهمة في يد الإدارة السورية، والتي أشهرتها منذ وصولها إلى دمشق. ومن الواضح أن هناك موقفاً سورياً رسمياً وشعبياً يقارب الإجماع حول ضرورة تصفية كل أشكال الوجود الإيراني في سورية، ورفض إقامة علاقات متميزة مع هذه الدولة، والعمل على مقاضاتها دولياً، بسبب الضرر الكبير الذي ألحقته بسورية خلال فترة الثورة بدعم نظام الأسد بالمال والسلاح والمتطوعين لقتل الشعب السوري وتهجيره. وهناك رأي عام سوري يطالب بأن تتحمل إيران القسط الأكبر من كلفة إعادة الإعمار، بسبب التدمير الذي قامت به المليشيات المحسوبة عليها في مدن سورية عدة.
ثالثاً، رفع العقوبات بجهود سعودية قطرية تركية يعني أن البلد الذي يعاني من هشاشة كبيرة، بات محصناً، اقتصادياً وأمنياً. وكان من الملاحظ أن الدول الثلاث بادرت إلى تقديم مساعدات لسورية بعد إسقاط النظام، ولكنها بقيت محدودة، بسبب العقوبات، وقد كان من المقرر أن تنهض كل من قطر والسعودية بتقديم مساعدات إسعافية عاجلة لحل مشاكل الكهرباء والبنى التحتية والطاقة. ومن المنتظر خلال الفترة القريبة تقديم مساعدات مالية عاجلة من الدوحة والرياض لتمويل بعض حاجات الدولة السورية العاجلة، وستبدأ قطر اعتباراً من شهر مايو/أيار الحالي بدفع جزء من رواتب موظفي الدولة السورية.
رابعاً، ينهي قرار رفع العقوبات حقبة طويلة دارت فيها سورية في فلك الاتحاد السوفييتي وروسيا، والانعطاف نحو الغرب، الذي وقف مع شعبها خلال أعوام المأساة، ودان أعمال القتل التي مارسها نظام الأسد، واستقبل قرابة مليوني مهجر، توزعوا في بلدان أوروبا. وقد كان أحد شروط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للتقارب مع السلطات السورية الجديدة إحداث قطيعة مع روسيا، التي لا تزال تحتفظ بالقاعدتين العسكريتين في حميميم قرب اللاذقية وفي طرطوس على الساحل السوري، ولكن الإدارة الجديدة قيّدت عملهما ولم تعودا تتمتعان بنفس المزايا التي كانت خلال حكم نظام الأسد. ويشكل ذلك خطوة أولى نحو الإنهاء التدريجي للوجود العسكري الروسي في سورية. وعلى هذا تمّ توقيع عقود استثمارية مع شركتين، واحدة فرنسية، وأخرى من موانئ دبي، للعمل في ميناءي اللاذقية وطرطوس.
خامساً، رفع العقوبات ينعكس على نحو إيجابي إقليمياً ودولياً، ويمهد لتحرير دول حدودية مع سورية، الأردن، لبنان، وتركيا، من عبء التهجير السوري، ويفتح باب العودة الطوعية لقرابة خمسة ملايين لاجئ سوري يعيشون في البلدان الثلاثة، ويشكلون ضغطاً كبيراً على أنظمة الخدمات في هذه البلدان.
سادساً، يغير قرار رفع العقوبات الأميركية من المعادلات السورية الداخلية، ويمنح الإدارة الجديدة قوة دفع من أجل استكمال وحدة البلد الداخلية، وتراجع طروحات التقسيم والفيدرالية التي ينادي بعضها في شرق وجنوب سورية. ويرى مراقبون تراجع الأصوات التي ارتفعت في السويداء والساحل السوري مطالبة بالتدخل الأجنبي، وفي الوقت ذاته تسريع تنفيذ اتفاق 10 مارس/آذار الماضي بين الرئيس الشرع وقائد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) مظلوم عبدي، والقاضي بدمج هذا الفصيل في الجيش السوري الجديد، وتسليم الدولة آبار النفط والغاز والسجون التي تضم معتقلي تنظيم داعش.
