تحت جلد البصريين.. حكاية ماء ملوث لم يعد يصلح حتى للزرع!

6 days ago 5
ARTICLE AD BOX

بغداد / تبارك عبد المجيد

لم يعد الحديث عن الأزمة البيئية في البصرة ترفاً صحفياً، بل هو وصف دقيق لمأساة يومية تتسلل عبر صنابير المنازل وتظهر على أجساد السكان في هيئة أمراض جلدية وسرطانية خطيرة. وعلى ضفاف شط العرب، تتكدس المخلفات الصناعية والطبية، وتتسرب مياه الصرف الصحي دون معالجة، بينما يمتد اللسان الملحي من الخليج عميقاً في النهر، مخلفاً وراءه موتاً بيئياً صامتاً، وسط صمت حكومي.
يشير محمد علي البصري، الناشط البيئي في المحافظة، إلى أن التدهور الحالي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة تراكمات امتدت لسنوات. إذ يوضح لـ(المدى)، أن "شط العرب، بوصفه المصب النهائي لنهري دجلة والفرات، أصبح نقطة استقرار لكل ما تحمله مياه النهرين من نفايات ومخلفات، قادمة من الشمال حتى الجنوب. ومع الانخفاض الحاد في معدلات التصريف المائي، بات النهر عاجزًا عن تطهير نفسه، فاختنقت مياهه بما حملته من سموم".
ويتابع البصري، أن "أكثر ما يفاقم الأزمة هو زحف اللسان الملحي من مياه الخليج، خاصة خلال فترات الشح، ما أدى إلى تدمير التنوع الحيوي وانقراض أنواع كثيرة من الكائنات المائية". كما يشير إلى أن هذا التغلغل أثر سلبا على الزراعة في مناطق مثل الفاو والسيبة، التي لطالما شكلت رئة خضراء للبصرة".
ويضيف، أن "ما يزيد المشهد قتامة هو تدفق مياه الصرف الصحي مباشرة إلى النهر، دون أي معالجة، سواء من خلال شبكات المجاري القديمة أو الأنهار الفرعية التي تحولت إلى مجارٍ للنفايات". هذا، بحسبه، لا يشكل فقط تهديدًا للبيئة، بل خطرًا داهمًا على صحة الناس، الذين يعتمدون في حياتهم اليومية على هذه المياه الملوثة.
ويؤكد أن مياه البزل الزراعي تُمثل سببًا آخر لتفاقم التلوث، لما تحمله من ملوحة مرتفعة تُضخ في النهر دون تنظيم أو معالجات، خصوصًا مع غياب المبازل الفعالة. كما يوضح أن ظاهرة المد العالي تُسهم بدورها في إعادة ضخ المياه المالحة إلى أعماق النهر، فتزداد التراكيز الملحية بشكل ملحوظ.
ويلفت البصري إلى أن "حجم الكارثة لم ينعكس فقط على البيئة، بل امتد إلى الصحة العامة، إذ سجلت المراكز الصحية مئات حالات التسمم والأمراض الجلدية والمعوية". ويشير إلى أن "المركبات الحوضية الحكومية، التي تنقل عبرها المياه، تفتقر إلى شروط السلامة، وأبرزها غياب التعقيم بمادة الكلور في محطات التحلية".
ويُحذر من أن التلوث النفطي بات أحد أخطر ملامح الأزمة، إذ تنتشر بقع الزيت على سطح الماء، مخلفة سحابة خانقة تُميت الحياة المائية، وتدفع السكان للبحث عن مصادر بديلة، غالبًا ما تكون مكلفة أو ملوثة هي الأخرى. ويُعرب عن أسفه لوجود تجاوزات واسعة، من بينها تصريف نفايات صناعية وطبية بشكل مباشر في المياه، من دون أي رقابة بيئية تذكر.
وحذر أيضا مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة، مهدي التميمي، من تفاقم الخطر البيئي الذي تواجهه المحافظة خلال العام الجاري، مشيراً إلى أن البصرة تعيش وسط تهديد حقيقي نتيجة التلوث الكبير في مياهها، في ظل ما وصفه بـ "تجاهل حكومي واضح وفشل مستمر في التوصل إلى حلول مائية مع دول الجوار".
وقال التميمي في حديث لـ(المدى)، إن المحافظة باتت "مكباً مائياً للنفايات الثقيلة والسامة"، مع ازدياد نسب الملوحة والتلوث في مياه شط العرب، دون أن يقابل ذلك أي تحرك فعلي من الجهات الرسمية.
وأشار إلى أن مشاريع تحلية المياه ومعالجة التلوث، التي سبق أن وعدت بها الحكومتان الاتحادية والمحلية، بقيت حبيسة الوعود، بينما تستأثر شركات التراخيص النفطية بكميات كبيرة من المياه العذبة لاستخدامها في عمليات حقن الآبار، ما زاد من معاناة السكان.
وأوضح التميمي أن "المناطق الشمالية من محافظة البصرة تُعد الأكثر تضرراً، بسبب غياب منظومات الصرف الصحي، مما يؤدي إلى تصريف المياه الثقيلة مباشرة إلى الأنهار، وهي ذاتها التي يعتمد عليها الأهالي في مياه الشرب والاستخدام اليومي".
وكشف عن تسجيل مئات الحالات المرضية بين المواطنين، تشمل أمراضاً جلدية ومعوية خطيرة، إضافة إلى حالات سرطانية يُحتمل ارتباطها المباشر بتفاقم التلوث المائي في المحافظة.
طالب التميمي الحكومة "بتشكيل خلية أزمة فورية، وإعلان حالة الطوارئ في البصرة، وإصدار بيان واضح يتضمن إجراءات واقعية وسريعة لاحتواء الأزمة قبل أن تصل إلى نقطة الانفجار وتتحول إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة".
من جانبه، قال عضو مجلس محافظة البصرة، جعفر الحجاج، لـ(المدى)، أن المحافظة تمر بأزمة مائية خطيرة، حيث تشهد مياه شط العرب تلوثاً متزايداً وصل إلى مستويات تُسبب حالات تسمم، مشدداً على أن السبب الرئيسي يعود إلى الانخفاض الكبير في الإطلاقات المائية الواصلة إلى المحافظة.
وأوضح الحجاج أن البصرة، الواقعة في نهاية مجرى نهر دجلة، تعاني من وصول كميات ضئيلة جداً من المياه، نتيجة التجاوزات المستمرة على النهر من قبل فلاحين وأصحاب البحيرات والثروة السمكية داخل العراق وخارجه. وأضاف أن الاعتماد شبه الكامل حالياً على ظاهرتي المد والجزر يعقّد من تفاقم الأزمة.
وأشار الحجاج إلى أن مجلس المحافظة يعمل حالياً على عدة محاور لمعالجة الوضع، من بينها مراقبة مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات، والتنسيق مع محافظة ميسان لضمان وصول الحصص المائية المخصصة، بالإضافة إلى الإسراع في إنشاء محطات تحلية المياه ووحدات معالجة، بعضها ما زال قيد الإنشاء.
وأكد في حديثه أن المجلس عقد جلسات مع مديرية الموارد المائية، ووجه مخاطبات رسمية إلى وزارة الموارد المائية بهدف إيجاد حلول جذرية وسريعة لأزمة المياه التي تهدد سكان المحافظة.
وقال المتحدث باسم وزارة الموارد المائية، خالد شمال، إن "الوزارة تعتمد في معالجتها لأزمة المياه على معالجة التجاوزات على الأنهر والجداول، وتطبيق نظام المناوبة والمراشنة لضمان توزيع عادل للمياه بين المناطق، فضلاً عن الجهود الاستثنائية التي تبذلها الوزارة لضخ المياه من بحيرة الثرثار لدعم مجرى نهر الفرات".
وأضاف شمال في حديث خص به (المدى)، أن "الوزارة شكلت خلايا أزمة في كل محافظة، تتولى مسؤولية إدارة الموارد المائية ضمن قاطع المسؤولية الجغرافية، وتضم في عضويتها مديري الدوائر المختصة، وتعمل بالتنسيق مع الوحدات الإدارية، والقوات الأمنية، والجهات المدنية ذات العلاقة، لتنظيم إدارة المياه بشكل فعال".

The post تحت جلد البصريين.. حكاية ماء ملوث لم يعد يصلح حتى للزرع! appeared first on جريدة المدى.

Read Entire Article