ARTICLE AD BOX
بعد تبادل السلامات والتحيّات، سألني زميلٌ لي بيروتيّ يعمل في بلاد الاغتراب: مين ربح بانتخابات بيروت؟
قلت: لا أنا ربحتُ. لا كوبر (صديقي السيّد كوبر الذي أنا تابعُهُ). ولا بيروت.
إني أعني ما قلتُه للزميل، على رغم أنّ الجواب سريع، لكن ليس متسرّعاً، وقد جاء عفو الخاطر.
بيروت هي الخاسرة. فهي لم تربح. هذا، بالطبع، إذا أردنا أنْ ننظر إليها من زاوية اعتبارها مدينة "غير شكل".
المدينة التي تبحث عن ذاتها؛ المدينة التي تريد أنْ تنهض من ركاماتها الوجوديّة والوطنيّة والثقافيّة والمدينيّة، من تأكّلها، وتقوقعها، ومن تريّفها الثقافيّ المأسويّ، هي الخاسرة.
أحزابها ربحتْ، نعم، وطوائفها، ومذاهبها، وقواها التقليديّة، وزبائنيّتها، ونظامها السياسيّ العفن، بما ينطوي عليه من ثباتٍ ورسوخٍ وتأبّد.
حتّى ليمكنني القول إنّ المشهد المتولّد من الاختبار الانتخابيّ البلديّ، ينبئ بأنّ بيروت ستظلّ، إلى زمنٍ غير معلوم، تُراوح مكانها الاستنقاعيّ، بل هي ستزداد استنقاعاً. فهذا المشهد يقول، في جملة ما يقوله، إنّها، لاعتباراتٍ وعوامل شتى، لا تزال غير مهيّأةً لإعادة إنتاج نفسها، على السويّة التي تليق بها، كمدينةٍ كانت في أحد الأيّام مختبر العواصم والمدن العربيّة، ومكاناً لتوليد الأمل.
وهي في الآن نفسه، غير مهيّأةٍ لتتوازى مع ما يحصل في غيرها من تغييراتٍ تمدينيّة وتحديثيّة، لدى مدنٍ شقيقةٍ وصديقة.
أقول ذلك، لا بانفعالٍ، ولا بغضب، بل بنوعٍ من الوصف الحياديّ، البارد، لكن النقديّ، الذي يستخلص الوقائع، ويفكّك عناصرها، واحتمالاتها، وما يترتّب عليها من أحوالٍ ونتائج.
هذا الوصف إنْ كان يدلّ على شيء، فعلى أنّ جملة ما عانته بيروت والبلاد برمّتها من فواجع ومآسٍ وهزائم وانهياراتٍ وتفجيراتٍ واغتيالاتٍ ومفاسد، وطرقٍ مسدودة، وآفاقٍ مجهضة، وما لا تزال تعانيه، هو الذي تترسّخ مراياه ومعانيه ودلالاته... بدل أنْ يكون هذا كلّه السببَ الموضوعيّ في استيلاد الشرر الذي يلتهم كلّ يباس، ويفتح الباب على الاحتمالات الإيجابيّة المضادّة.
ليس في بيروت، في ضوء نتائج استحقاقها البلديّ والاختياريّ، ما يوحي أنّ ثمّة ما يبشّر بالخير، والتغيير، على مستوى التأسيس لمنطقٍ مناهضٍ لمنطق الفساد والتحاصص وتبادل المنافع بين قوى الطبقة السياسيّة وأطرافها وأطيافها ومكوّناتها الاستنقاعيّة، العميقة الجذور، والعاملة على تأبيد دواميّتها في الحياة السياسيّة اللبنانيّة.
فليس ما حصل في بيروت، كما في جبل لبنان، والشمال، إلّا مؤشّراتٌ بنيويّة ومجتمعيّة ستكتمل معالمها في انتخابات الجنوب، الأحد المقبل، لرسم صورةٍ بانوراميّة واقعيّة للحال السياسيّة الراهنة و... المحتملة مستقبلًا.
أحبّ أنْ أعتقد أنّ العهد الجديد، وحكومته، بطموحاتهما، لن يجدا في هذه النتائج ما يثلج القلب، ويرفع الرأس.
يجب أنْ يتحسّس كثيرون رؤوسهم ومراكزهم ومقاعدهم من الآن.
وإذا كان من عبرة، فيجب أنْ يتلقّفها كلّ مَن لا يزال يؤمن بلزوم إحداث تغييراتٍ جذريّة في الحال.
ملاحظة بديهيّة ضروريّة: لا يكفي إطلاق شعارات التحديث والإصلاح والتغيير، والمناداة بها، إذا لم يبدأ عملٌ سياسيٌّ تأسيسيّ، بما يعنيه التأسيس من موجباتٍ وشروط، وهذا ليس ثمّة ما يدلّ على مباشرته، والبدء به.
لذا أقول عبثًا كلّ انتخابٍ ومنتخِبين ومنتخَبين... إذا كان ذلك يجري على طريقة ما نشهده الآن.
بيروت لم تربح. لبنان أيضاً.