بأي ذنبٍ قتلوا أطفالي التسعة؟

1 day ago 1
ARTICLE AD BOX

هكذا تبدو ساهماً، وأنت تحاول أن تكتب عن أبشع مجزرة ارتكبت منذ بداية الحرب على غزّة قبل نحو عامين، وحيث أن الاحتلال الإسرائيلي قد ارتكب آلاف المجازر بحقّ عائلات بأكملها، فأبيدت ومسحت من السجلات المدنية، فيما حالف الحظ بعض العائلات أو جانبها حين قتل كل أفرادها ولم يبق منها سوى الناجي الوحيد الذي عليه أن يجترّ مرارة الفقد ما تبقى له من العمر، وأن يواجه الحياة وحيداً.

ليس أبشع من كل ما مرّ أمام ناظريْنا وعجزنا إلا جريمة قتل أبناء الطبيبة الشابة آلاء النجار، وهي ابنة مدينتي ومسقط رأسي، خانيونس، جنوب قطاع غزّة المضروب عليه الحصار منذ نحو 20 عاماً. ورغم ذلك، استطاعت هذه الأم أن تحصل على تخصّص طب الأطفال، فيما يعمل زوجها طبيب أمراض باطنة. وعليّ أن أشير هنا إلى أن هذه العائلة من العائلات التي أقامت في المدينة قبل النكبة، وقد اشتهروا بدماثة الخلق وتماسكهم العائلي وحرصهم على تعليم أولادهم، سواء التعليم الأكاديمي أو مبادئ الدين مثل حفظ القرآن الكريم مبكّراً.

وفيما عمل الآباء والأجداد لهذه العائلة في المهن الحرّة المختلفة، بدءاً من التجارة في وسط المدينة العريقة، فقد حرصوا أن يتعلم أولادهم ويحصّلون أعلى الدرجات. ولذلك لا غرابة في أن تكون من نسلهم طبيبة شابّة مختصّة بطب الأطفال، وفي الوقت نفسه، لديها عشره أطفال أنجبتهم خلال سنوات قليلة، ما يدلّ على عُرفٍ لم يتغيّر وقناعة ثابتة لدى أمثال هذه العائلات التي ترى أن إنجاب الأطفال يعني رسالة يجب أن تؤدّيها نحو أهلك، لأنك سوف تكون حريصاً أن تهديهم أبناء صالحين وناجحين مثل آبائهم وأمهاتهم.

ظلت الطبيبة الشابة آلاء النجار في عملها في المستشفى الأقدم في المدينة، وهو مستشفى ناصر. وفيما كانت تقيم بين عائلتها في منطقتهم إلى الجنوب الشرقي من المدينة، "قيزان النجار". ورغم صدور أوامر الإخلاء لسكان المنطقة، وضرورة التوجه إلى غرب المدينة تحت التصنيف الكاذب، وهو المنطقة الإنسانية الآمنة، فقد كان من الصعوبة أن تتدبّر آلاء مع زوجها مكاناً مناسباً لنزوح أطفالهما العشرة، وحيث لم يبلغ أكبرهم الحلم، وهما يعرفان جيّداً صعوبة الحياة في منطقة المواصي، حيث الاكتظاظ في الخيام، وعدم توفر وسائل العيش بحدّها الأدنى. ولأن الطبيبة كانت لا تزال لديها طفلة رضيعة لم تتجاوز نصف العام، فقد بلغ خوفها عليها أشدّه، وقرّرت مع زوجها الاستسلام للأقدار والبقاء في البيت، وحيث نزح معظم الناس من حولهم، ولكن الأب الحنون لم يتوقّف عن دأبه، وهو توصيل الأم الطبيبة إلى عملها بسيارته، ثم عودته إلى البيت ليرعى الصغار. وفيما كان يزاول عمله في مركز طبي أنشأه في المنطقة نفسها، من أجل خدمه أهله، وإن خلا من المرضى، مع أيام النزوح. ولذلك كان هذا يعني أن يمضي معظم وقته بين الصغار العشرة.

هكذا استسلمت الطبيبة، وهي تؤدي عملها في مداواة الأطفال المرضى والجرحى، لقرار عدم النزوح. ولم تكن تعلم أن القرار الصعب سيأتي بنتيجة سريعةٍ مؤلمةٍ ومذهلة، ولا يمكن تصوّرها أو تخيّلها، فقد قصف البيت، وحلت أبشع كارثة بهذه الأم، وحيث أصبح اطفالها الذين ودّعوها بضحكاتهم قبل ساعات قليلة لحماً تفوح منه رائحة الشواء، ولم ينج منهم سوى واحد، يصارع الموت، وهو ما يحدث للأب الطبيب حمدي النجار.

تبدو عاجزاً ومذهولاً أمام بشاعة هذه الجريمة وتستاء وتتألم من صمت العالم إزاءها التي فاقت كل جرائم هذه المقتلة، وتتمنّى لو تفقد هذه الأم ذاكرتها شفقة عليها، فكيف تنسى أنت، في لحظةٍ، ما بذلته من جهد في مشروع عمرك، وأطفالنا هم مشاريع أعمارنا التي يفشلها الموت كل يوم في غزّة بلا هوادة.

Read Entire Article