ARTICLE AD BOX
ما يجري في قطاع غزّة ضدّ الشعب الفلسطيني غير مسبوق، والظنّ أنه أسوأ المذابح التي ارتُكبت منذ عام 1948. وهي جرائم إبادة جماعية تُصوَّر وتُبثّ إعلامياً صوتاً وصورة، وسط حالة من التجاهل الدولي من الدول الكبرى، التي لا نرى منها سوى تصريحاتٍ خجولة بين حين وآخر، ذرّاً للرماد في العيون. وهي حربٌ عبر عدة جرائم منهجية، يجمعها الاستهداف الجماعي للمدنيين والصحافيين والأطبّاء وطواقم الإسعاف، بالإضافة إلى قصف مباشر للمستشفيات والمدارس وأماكن النزوح، وتفتقد عنصر التناسب مع ما قامت به حركة حماس في 7 أكتوبر (2023)، وتعمّد ترويع السكّان وإجبارهم على الانتقال من مكان إلى آخر تحت القصف، وهي حربُ تجويع متعمّدة تنتهج الحصار ومنع إدخال أيّ مساعدات إنسانية للأهالي، وتتناقض مع اتفاقات جنيف الأربعة، وقواعد القانون الإنساني الدولي.
لا تحظى هذه الجرائم المسكوت عنها بالاهتمام الذي نراه تجاه أيّ حادث إرهابي في مكان آخر غير غزّة، لإدانتها ووقفها. الأخطر في ما يجري على المستوى العربي من تخاذل إجبار الجمهور على الصمت إزاء هذه الجرائم، ومعاقبة من يحاول فضحها، وانتهاج سياسة ما يمكن تسميته "تطبيعاً مع المذبحة" عربياً رسمياً، يمكن تعريفه، بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، بأنه "أحد التكتيكات المستخدمة لتحقيق أقصى درجات السيطرة الاجتماعية بأدنى استخدام للقوة". وهو فعلٌ يستهدف وعي "المواطن" باعتبار ما يراه ويسمعه "فعلاً اعتيادياً"، أقصى ما يمكن أن يواجه به أن يحزن قليلاً، ويلعن المتسبّبين، ثمّ يتعوّد عليه، وقد يتوقّف عن سماع نشرات الأخبار المليئة بأخبار الضحايا والأشلاء. ويختلف هذا المفهوم قليلاً مع تطبيع أنظمة عربية مع دولة الاحتلال، حتى من دون شرط إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يعارضه الموقف الشعبي، ويقف عثرة ضدّه.
وكأنّ المطلوب في سياق "التطبيع مع المذبحة" أن يعتاد المواطن العربي ما يحدث، ويصدّق بأنه لا سبيل لوقف هذه المجزرة سوى بالدعاء أو بالبيانات السياسية
ويتبع الآن النظام العربي الرسمي هذا النوع من التطبيع مع الإبادة في غزّة، بهدف الاعتياد على ما يجري باعتباره شيئاً عادياً، وليس استثنائياً، ولا يستحقّ حتى إظهار أبسط مظاهر الدعم الشكلي من خلال فرض حالة الحداد أو إبراز التضامن الشعبي أو القيام بإجراءاتٍ عقابيةٍ محدودةٍ ضدّ الاحتلال. وانعكس هذا "التطبيع" في عدة مسارات، أهمها تجاهل هذه الإبادة، من دون اتخاذ أيّ ردّة فعل سياسية تتناسب مع حجم ما يُرتكَب من المذابح، التي وصل ضحاياها إلى ما يزيد على 50 ألف شهيد، وهي جريمة "غير مسبوقة كمّياً ونوعياً" في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. أيضاً، التركيز في استخدام لافتة "رفض التهجير"، التي مثّلت فكرةً محوريةً سياسياً وإعلامياً وشعبياً في الشهور الماضية، مقابل تجاهل ممارسات الإبادة ضدّ الفلسطينيين، وإعطائها ما تستحقّه من عناية بوقف هذا النزيف.
وكان من مسارات هذا التطبيع أيضاً، استمرار العلاقات العربية الإسرائيلية بشكل معتاد ومن دون تغيير، سواء سياسياً أو اقتصادياً، وهو ما ظهر في تقارير أشارت إلى رسوّ سفن إسرائيلية في بعض الموانئ العربية، وتبادل البضائع والسلع بين الطرفَين وكأنّ شيئاً لا يحدث هناك. كما تم تجاهل القيام بأيّ خطوات قانونية حقيقية في سبيل فضح هذه الانتهاكات لمبادئ القانون الدولي الإنساني. بالعكس، كانت جنوب أفريقيا هي السبّاقة من خلال نجاحها في إصدار المحكمة الجنائية الدولية قرارات ضدّ رئيس وزراء الاحتلال ووزير دفاعه السابق. علاوة على ذلك، تغييب ردّات فعل الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، فلا عمل في متابعة تنفيذ أيّ من مقرّرات القمم التي عقدتها منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولم تتعدَ بياناتهما مجرّد مطالب نظرية موجّهة للمجتمع الدولي من دون اتخاذ ما يلزم من إجراءات للقيام بخطوات فاعلة لوقف هذه الحرب. قارن هذا الموقف بقيام بعض دول أميركا الجنوبية بقطع علاقتها مع "إسرائيل" على سبيل المثال. والمشكلة أن بعض الأنظمة العربية تتفرغ لممارسة الضغوط على حركة حماس والمقاومة، وإبراز مطلب إنهاء حكمها قطاع غزّة أو تسليم سلاحها، وعدم السماح بأيّ تحركاتٍ شعبيةٍ لمناصرة الشعب الفلسطيني، بل تحبس معارضي هذه الحرب.
التخاذل العربي حيال ما يحدُث في غزّة غياب للإحساس بمدى خطورة المشروع الإسرائيلي في السيطرة على المنطقة
نحن بين أنظمة متورّطة بدعم "إسرائيل" وتبنّي مواقفها، وأخرى غائبة من ساحة الفعل، وثالثة تقيم المهرجانات الفنّية والرياضية الكُبرى من دون أن يرمش لها جفن تجاه ما يحدث وكأنّه في كوكب آخر. وكأنّ المطلوب في سياق "التطبيع مع المذبحة" أن يعتاد المواطن العربي ما يحدث، ويصدّق بأنه لا سبيل لوقف هذه المجزرة سوى بالدعاء أو بالبيانات السياسية، وبمحاولات إلهاء المواطن في تلبية حاجاته اليومية، أو إبراز فزّاعة المؤامرة والتخويف من القيام بأيّ تصعيد سياسي باعتباره استدعاءً للحرب.
في النهاية، يعد هذا الموقف الأكثر تخاذلاً بالمقارنة حتى بالموقف العربي إبان نكبة 1948، كما لا يتناسب مع مواقف أخرى في وقف الحرب ضدّ قطاع غزّة في العقدَين الأخيرَين، إذ استخدمت تلك الأنظمة العربية حدّاً أدنى من الوسائل الدبلوماسية والسياسية لوقف ما يحدث من مجازر. يمثّل ذلك أيضاً غياباً للإحساس بمدى خطورة المشروع الإسرائيلي في السيطرة على المنطقة، التي لم يخفِ اليمين الصهيوني (المتطرّف) سعيه إلى تحقيقها في الضفة العربية وقطاع غزّة، والسيطرة على المشرق العربي. ويعكس ما يحدث من تطبيع مع تلك المذبحة القائمة في قلب المنطقة، تجاهل أن المحصّلة سوف تؤدّي إلى إضعاف العالم العربي أكثر، خاصّة إذا نجحت "إسرائيل" في تحقيق رغباتها وأحلام وزرائها المتطرّفين أمثال بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، وبنيامين نتنياهو نفسه، الذي يسعى إلى تدشين نفسه شرطياً في المنطقة.
هذا هو أخطر ما يتم في هذه المذبحة التي تجري منذ 18 شهراً، ويبدو أنه يعكس رسالةً من بعض النظم العربية بأنها غير مهتمة بما يحدث في غزّة، على الرغم من تأثيره السياسي على أمنها القومي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ولو نجحت "إسرائيل" في تنفيذ خططها القائمة على التخلّص من أيّ التزامات سياسية وقانونية بحلّ الدولتَين.
